تشهد مملكتنا الحبيبة في العهد الزاهر لخادم الحرمين الشريفين نقلات نوعية وكمية في شتى المجالات ولله الحمد على كافة الأصعدة والمستويات لتغطي كافة أرجاء وطننا الغالي، يشهد لها القاصي والداني. ولا غرابة في ذلك، ففي ظل الوالد القائد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أيده الله وأدام الله عزه، نعيش نحن أبناء المملكة والمقيمين في رغدِ العيش والأمن والأمان. الحديث عن التعليم وهمومه، حديث ذو شجون؛ إذ لا يكاد يخلو منها كل مجلس والكتابة عن التعليم يكاد يكون بشكل يومي في أي صحيفة. وليس ذلك بغريب فالتعليم عصب الحياة وقوامها وهو من الأهمية بمكان لدرجة أنه أي التعليم هو الذي يضع الأمم في أعلى قائمة التطور وغيابه يجعل الأمة ترزح تحت وطأءة التخلف والجهل. فالعلم يرفع بيوتاً لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والشرف. لهذا تولي حكومة خادم الحرمين الشريفين أيده الله التعليم جل اهتمامها وذلك من الرقي بالإنسان السعودي. ومن هنا جاء المشروع العملاق للنهوض بالتعليم العام في المملكة، حيث أمر جلالته بقيام مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم الذي رصد له المبالغ الطائلة ؛ فقد ولد ليعيش وزرع ليثمر. ويشرف على هذا المشروع أكفأ قادة قادرين على رسم الخطط الطموحة للنهوض بالتربية والتعليم. وفي هذا المقام لا يسعني إلا أن أسطر إعجابي الصادق بالمسؤولين على وزارة التربية والتعليم والمشرفين على مشروع الملك عبدالله الطموح على جهودهم المخلصة والحثيثة للرقي بالتربية والتعليم في بلدنا. فمشروع خادم الحرمين الشريفين يسعى إلى تنفيذ عدد من البرامج التطويرية للمناهج التعليمية وإلى تحسين البيئة التعليمية. ومن هنا جاء مقالي هذا عله يجد استحساناً وقبولاً لتتم دراسته بشكل أعمق وأدق. وما دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع الهام إلا حقيقة أنني أب له أبناء وبنات يدرسون في كافة مستويات التعليم العام، وبصفتي أستاذاً جامعياً يعايش واقع التعليم الجامعي عن قرب ويتعامل معه قرابة عشرين عاماً، إذ مازالت مخرجات تعليمنا العام للأسف بعيدة عن أرض الواقع ولا تفي بطموحات الوطن ولم تصل بعد إلى آمال القائد الملك عبدالله بن عبدالعزيز. فمدارسنا الحالية كما أشار إلى ذلك الأستاذ راشد العبدالكريم في مقاله بمجلة المعرفة (عدد 177) في أزمة، إذ هي دون طموح القائمين عليها، وتقصر عن توقعات المستفيدين منها ولم تستطع التكيف مع كثير من مستجدات العصر ومتطلباته. وخير دليل على قصور التعليم العام لدينا، إنشاء نظام السنوات التحضيرية في الجامعات السعودية الذي من ضمن أهدافه رفع كفاءة الطلاب وتأهيلهم قبل دخولهم الحياة الجامعية، وكذلك اختبارات القياس التي ينفذها المركز الوطني للقياس والتقويم الجامعي التي تشترطها الجامعات لضمان دخول الطلاب فيها، مما يعني بطريقة غير مباشرة إلى عدم ثقة تلك الجامعات بمخرجات التعليم العام، حتى ولو حصل الطالب أو الطالبة على نسبة تقارب 100%. لن أتطرق إلى المناهج وماهيتها في هذا المقال، فالحديث يطول ويحتاج إلى مقالات متخصصة من أُناس متخصصون. كما أني لا أتحدث عن المعلمين وأوضاعهم، فهم في الغالب محبطون وينظر بعضهم إلى عمله بدونية وعدم الرضا. ولكم أن تتصوروا أيها القراء الكرام حالة اليأس هذه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقدم عملاً تربوياً خلاقاً، إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه. فلطالما أن «بعض» المدرسين خالو الوفاض ومحبطون، فبالتأكيد أن مخرجاتهم سوف تكون أقل علماً وأكثر وبالاً. ولعل ما خرجت به ورشة إصلاح التعليم في الدول العربية: المملكة العربية السعودية أنموذجاً والتي عقدت في رحاب كلية التربية بجامعة الملك سعود خلال الفترة 22-24/10/1430ه من توصيات دقت ناقوس الخطر لتشعرنا بأهمية الموضوع وضرورة اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة، إذ تشير إحدى التوصيات إلى «الاهتمام بربط مدخلات التعليم ومخرجاته بالجدوى الاقتصادية لأهمية إعداد الطالب أوالطالبة القادر على ربط التعليم بجوانب احتياجات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وغيرها لما لذلك من أثر إيجابي على استقرار الأسرة والمجتمع في المملكة». ومن هنا أقدم هذا المقترح البسيط الذي لا يعتمد على ترميم المناهج القائمة أو ترقيع كتبها ومناهجها البالية، بل هو ببساطة يترك التعليم القائم حالياً على مساره ويضع مساراً جديداً مختلفاً كلياً عن القديم في المناهج والأسلوب وطرق التدريس. وبالتالي فنحن نقوم بعمل جديد خلاق هدفه الرقي بالتعليم وليس ترميم القائم، فما نقوم به الآن مع احترامي للجميع كمحاولات يائسة في غرفة إنعاش لمريض يعاني من ألف علة وعلة. اعرف مسبقاً أن طرحي هذا لن يروق للبعض من المتعلمين وربما يحاربه «التقليديون» الذين يرون أن في أي تغيير «تخريباً». التقليديون فقط هم الذين يتغنون بالماضي ويحاولون جل جهدهم العض عليه بالنواجذ إيمانا منهم بأن الجديد دائماً أسوأ، ويرون أن أي تغيير أو تجديد لابد أن يكون وراءه ما وراءه أو كما يقولون وراء الأكمة ما وراءها، وبالتالي فإن أي محاولة جادة لتطوير التعليم دائماً تواجه بسيل من الشكوك والمحاذير. تلك هي نظرية المؤامرة التي يؤمن بها البعض وهي التي تجعلنا في حالة شك وريبة من كل جديد. وخير مثال على ذلك ما لقيه تعليم الفتاة في بلادنا منذ أن كان في المهد، وما قام به البعض من محاولات مستميتة لإيقاف عملية الدمج بين تعليم البنات والأولاد في جهة حكومية واحدة. ولعلي هنا أشير إلى ما ذكره الدكتور احمد العيسى في كتابه عن التعليم (2009م) حيث تحدث عن الأسباب التي أدت إلى إخفاق مشاريع إصلاح التعليم في المملكة، حيث ذكر منها ثقافة المجتمع التي تخاف وتشك في التجديد. وفي ظني أن هذا السبب هو مربط الفرس وبيت القصيد، حيث يحارب التقليديون كل تطوير وتجديد، وللأسف في الغالب تصبغ محاربتهم وآراؤهم بالدين وتُلبس قوالب واطر دينية. وهذا أيما والله محاربة لبناء الوطن، فتطوير التعليم ضرورة ملحة ومصلحة عليا يجب ألا يساوم عليه اثنان. ومن أجل بناء نظام تعليمي متطور هدفه الرقي بأبناء وبنات هذا الوطن الغالي ومن أجل الحفاظ على مقدرات الوطن، فإنه يجب أن نتجاوز النظام التقليدي الحالي إلى نظام جديد هدفه بناء عقل الإنسان ويشجع على الإبداع والتميز، فلقد حان الوقت لتبني رؤية تربوية جديدة تتوافق مع روح العصر والعولمة التي يشهدها العالم. لهذا فإن هذا المقترح لا يدعو إلى تغيير القائم أو ترميمه، وإنما يدعو إلى خلق نظام جديد متوازٍ «موازي» للقائم، ولكنه يختلف عنه تماماً. في حالة قيام المقترح، فإن المواطن سيجد أمامه خيارين: تعليم قديم تقليدي وتعليم حديث جديد «موازي». وله الحرية في اختيار ما يشاء. هنا تنقطع سبل الوصاية على المجتمع وأطره على مسار واحد، فمن شاء فليختر الجديد أو ليبقَ على القديم. ولعل تجربة وجود نظامين للتعليم في المملكة للمرحلة ما بعد الابتدائية يمكن أن يستفاد منها في توضيح فكرة التعليم الموازي، حيث يتاح للشخص الاختيار بين التعليم المتوسط التابع لوزارة التربية والتعليم أو المعاهد العلمية التي تشرف عليها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. أنا هنا لا أدعو إلى التوقف عن تطوير النظام الحالي للتعليم، لكن لندعه جانباً يسير في طريقه ونبني نظاماً جديداً يُنشأ من الأساس ابتداءً من المرحلة الابتدائية ويتطور مع الزمن ليصل إلى المرحلتين المتوسطة والثانوية حتى يصل إلى الجامعة. وبهذا فإن المشروع الجديد قوامه اثنتا عشرة سنة ليخلق جيلاً قادراً على الولوج في أقوى الجامعات المحلية والعالمية وأن ينافس وبجدارة على المراكز الأولى في التعليم الجامعي. أما آلية تنفيذ المقترح هذا ففي رأيي المتواضع بسيطة جداً، فكما تقول الحكمة العالمية «If there is a will, there is a way - إذا كان هناك رغبة وجدت الطريقة”. لنبدأ بالخطوات التالية: أولاً : ماذا نريد أن نكون وفقاً للسياسة العليا للتعليم وضمن أطر الإستراتيجية الوطنية العليا للتعليم، يتم رسم مستقبل التعليم العام في بلدنا ضمن خطة عشرينية تركز على : «ماذا نريد أن نكون». وإذا ما تم تحديد الهدف، فإن تحديد آلية الوصول ليس بالأمر الصعب، فكما هو معروف في الطب أن التشخيص الصحيح للحالة نصف العلاج. ومن لا يكون له هدف ولا يعرف ماذا يريد فكل الطرق تؤدي إلى «هناك» وأي شيء يفي بالغرض. ثانياً: تشكيل الفريق يتم تشكيل فريق تربوي متخصص ومنتقى على درجة عالية من التأهيل العلمي ليقوم بتحديد الدول العالمية (إسلامية وغيرها) لتكون هي الدول المرجعية أو الأساس (Benchmarking) لتصبح لنا مثالاً (Best practice) نحتذي بحذوه في التعليم دون المساس بالثوابت. ولتكون الدول التالية (مثلاً) هي المرجعية التعليمة لنا: ماليزيا، اليابان، سنغافورا، نيوزلندا، استراليا، ألمانيا، كندا، الولاياتالمتحدةالأمريكية. ثالثاً: الدراسة والبحث يقوم الفريق بدراسة مناهج تلك الدول وفرزها إلى قسمين رئيسين: المتشابه فيما بينها والمتغاير. إذا تشابهت المناهج فهذا دليل كالشمس في رابعة النهار على ضرورة الأخذ بتلك المناهج. أما إذا اختلفت، فإنه يجب البحث عن أسباب تلك الاختلافات ومبرراتها وهل من الممكن أن تطبق على وضعنا هنا!! كما يجب ألا يغيب عن البال أن المناهج الدراسية يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين: المناهج العلمية أو العلوم البحتة، وأقصد بذلك الرياضيات والعلوم والهندسة والعلوم الاجتماعية والتي تشتمل على المعارف الأخرى كاللغة والثقافة والدين والجغرافيا والتاريخ والاجتماع والفنون. ومن الجلي أن المعارف العلمية متطابقة في كافة بقاع المعمورة، فنظرية فيثاغورس مثلا أو قانون الجاذبية ليست حكراً على أحد، كما أن العملية الحسابية التالية: 4× 5 = 20 هي صحيحة في اليابان والبرازيل وألمانيا وجنوب أفريقيا. ومن هنا فإن مناهج تدريس المعارف العلمية أو ما يمكن تسميته بالعلوم البحتة، لا يحتاج إلى خصوصية أو محلية، أو إلى اختراع العجلة، بل هو نظام عالمي يجب علينا أن نتبناه بكل حذافيره. وهذا الجانب مهم جداً للرقي في مخرجات التعليم لدينا. في حين أن مناهج العلوم الاجتماعية على الرغم من تشابهها مع العلوم الأخرى، يجب أن تصاغ وفقاً لاحتياجاتنا وبما يتناسب مع عادتنا وتقاليدنا، مع الأخذ في الاعتبار أن العالم اليوم يعيش عصر العولمة والمعلوماتية ولا مجال للانغلاق أو الانزواء جانباً. رابعاً : توفير البيئة المناسبة لضمان نجاح المشروع، لابد من توفر البيئة المناسبة له. إذ يجب أن يطرح المشروع على المجتمع بصورة تفاعلية قابلة لاحتواء آراء ومقترحات الطالب والبيت. ولهذا، يجب أن يكون المشروع قادراً على القيام بالتقييم الذاتي والتغذية الراجعة. ولا يمكن للمشروع أن يكتب له النجاح دون إقناع المجتمع بأهميته، وذلك عن طريق حملات تثقيفية وتوعوية تشمل كافة أفراد المجتمع. وقد يكون من المفيد والمستحسن أن يتم تطبيق تلك النظم والمناهج الجديدة على مدارس افتراضية تشبه إلى حد كبير نظم المحاكاة (Simulations Models) للتأكد من مدى استعداد المجتمع لتقبلها. خامساً: التطبيق في ظني أن التجارب السابقة والحالية لتطوير التعليم بدءاً من التعليم الثانوي المطور ثم الشامل ثم المدارس الرائدة والنظام المرن ونظام الصفوف الأولية والتقويم المستمر، جميع تلك المحاولات كانت وما زالت محاولات لترميم النظام القائم. والترميم كما هو معرف لا يلامس الجوهر، بل هو رتوش ومحاولات لإخفاء التشققات والندوب. وهذا يعني أن الترميم في الغالب وأن كان يبدو أرخص وأسرع، إلا أنه على المدى الطويل أقل جدوى وخسارة في المال والوقت. آملاً أن يتحقق المنشود وأن ترقى بلادنا إلى مصاف العالمية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإصلاح التعليم أولاً وآخرا، فكما قال جون كندي «لا يمكن أن يكون تقدمنا كأمة أسرع من تقدمنا في مجال التعليم. العقل البشري هو موردنا الأساسي» ومن يعتقد بأن تكاليف التعليم باهظة، فليتذوق الجهل كما قال رئيس جامعة هارفارد. وفق الله الجميع إلى خدمة وطننا المعطاء، وللجميع مودتي. * جامعة الملك سعود