حدث مراراً، منذ منتصف القرن الماضي، أن حاولت وزارات التربية والتعليم،في الوطن العربي , تطوير سياساتها، وأهدافها التربوية. بيد أن هذه المحاولات قد غلب عليها التقليد أحياناً، أو الطابع الوثائقي المنعزل عن الممارسة العملية أحياناً أخرى. فكنا نلاحظ وجود دراسات ممتازة، لكن لا وجود للقرارات ذات الطابع العملية. ويدهش القارئ عند الاطلاع على أهداف الدراسات العملية في وزارات التربية والتعليم ، لدقة الصياغة، وشمول الأهداف. غير أن المشكلة ليست في وجود أهداف جيدة من عدمها، بل إن هناك عوامل أخرى، لها القول الفصل في تطوير سياسات الوزارات وأهدافها. لقد حصل في الجملة، تقدم نظري في معالجة مشكلات التربية والتعليم من الوجهة الفكرية، فلم نعد عالة على الخبراء الأجانب في دراسة قضايانا التربوية، بينما بقيت المشكلات الكبيرة قائمة، ولا تجد من يتصدى لها. ومن بين هذه المشكلات،امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة \"التوجيهي\"، إذ يعمد المسؤولون في وزارة التربية والتعليم ، إلى التفاخر بأنهم يقومون على خدمته، ورعايته، فتارة يضفون عليه هالة من القداسة والعظمة، وتارة أخرى، يضخمونه ليلقوا في قلوب الطلاب وذويهم,الرعب، فيكون لهذا الامتحان، هيبته وقيمته المعنوية. ويدهش المرء لتصريحات المسؤولين في وزارات التربية, بأن \"التوجيهي\" أقوى امتحان في دول العالم، وهم يقصدون من حيث التشدد، وليس من حيث التعليم، فوزارات التربية نفسها، تعترف بتراجع التعليم في الوطن العربي، وتدني مستواه، لكنها تفاخر في التشدد في إجراءات هذا الامتحان العظيم. وفي تصوري، فإن وزارات التربية, تغرق في الذنب حتى الرقبة، وترتكب خطايا، وآثاماً من الوزن الثقيل، بحق أجيال كثيرة من الشباب، الذين ذهبوا ، وذهب مستقبلهم على مذابح هذا الصنم. بيد أن أحداً لم يسأل نفسه عن قيمة هذا الصنم الكبير، الذي نسميه \"التوجيهي\"، وهذا التشدد في الحراسة، ووضع الكاميرات، واستقدام رجال الأمن، ورجال الشغب، ومنع التجول، والإجراءات المخابرتية،.. لماذا لم تحل مشكلات تراجع التعليم في الوطن العربي؟! هذا يعني أن \"التوجيهي\" ليس هو المعيار في مقياس التطوير، في سياسات التربية والتعليم، وأنه قد يكون هو السبب، في تراجع التعليم برمته؟! إن شهادة الدراسة الثانوية العامة \"التوجيهي\"، تقتصر على الإعداد للجامعة، ولا تهيئ لسوق العمل ، وزيادة على الهدر المتمثل في الرسوب، والتسرب، لصعوبة نظامها، فإن من المتوقع عدم وجود أماكن لخريجيها في الجامعات، ولا تحتاج البلاد إليهم، حتى تضطر إلى إقامة فرصة التعليم لهم، فتستوعب الجامعات عدداً منهم بقدر ما تحتاج، فيكون مصير البقية هو الضياع، لعدم إعدادهم للحياة العملية . هنا يضطر المرء للنظر خلف الرأس، فالتصنيف يبدأ من المرحلة الثانوية فوق المتوسط في الوقت الحاضر، إذ أن الممارسات السابقة في التصنيف، بعد المرحلة الإبتدائية، أخفقت كلها في العقد الأخير من القرن الماضي. إن الغالبية العظمى من طلاب المرحلة الثانوية، هم في النوع العام الأكاديمي، وإذا نظرنا إلى التعليم التجاري، والتعليم الزراعي، على أنها أقرب إلى النوع العام، وهو الواضح، فإن ما يبقى للتعليم الفني، لايكاد يشكل نسبة ظاهرة، وتستطيع أصغر شركة، أن تديره، وتستثمره في الجانب الإيجابي. أما بخصوص التصنيف بين العلمي والأدبي، وهو السائد في غالبية مدارس التعليم الثانوي، فإن الإحصائيات تدل على تساوي النسبتين، بين الصنفين تقريباً. إن أولى محاولات علاج مشكلات التعليم الثانوي، كانت تتمثل في استحداث أنماط التعليم المهني والفني، وقد بذلت الحكومات السابقة جهوداً واضحة، في هذا الصدد، إلا أن نصيبها من النجاح، كان دون المتوقع. فمن ناحية، لم يكن الإقبال على هذا التعليم، متمشياً مع التوقعات، كما لم تكن كفايته الخارجية، في سد احتياجات العمالة، مثار إعجاب المسؤولين عنه، أو المستقبلين لخريجيه. وعلى الرغم من المحاولات المتكررة، لتوسيع قاعدة التعليم المهني، والتقني، على المستوى الثانوي، إلا أن الملاحظ على التطور الكمي لهذا النوع من التعليم، جاء عكس ذلك. إن ما تظهره الإحصائيات، هو أن التعليم التقني، والمهني، على المستوى الثانوي، لا يتماشى مع الاحتياجات الظاهرة للمجتمع، من ضرورة إيجاد طبقة فنية وسطى، ولا نجزم بتفسير الظاهرة، بأن الحكومات العربية رفعت مستوى التعليم التقني، إلى ما بعد الثانوية، وأوكلت التعليم المهني إلى مراكز التدريب، كما يمكن أن يقال، لأن المعاهد العليا، ومراكز التدريب، فوق أنها تجربة حديثة نسبياً، فإنها تعاني من قلة الإقبال، واحتمالات الإحباط، والتوقف. إن سياسات وزارات التربية والتعليم ، أدت فيما أدت إليه، إلى انصراف الأهالي، والطلاب، عن الإقبال على التعليم المهني، لأن الناس أخذوا ينظرون إلى التعليم الفني، على أنه دون المستوى، وهذا في الواقع، ضد هدف إعداد العمالة المنتجة، من المستوى المتوسط، وضد محاربة ثقافة العيب، وهي أيضاً، ضد مشاريع تطوير التعليم . يظهر مرة أخرى، أن الطلب الاجتماعي على التعليم الثانوي العام، ومن بعده التعليم العالي، يكمن وراء عدم النجاح، في تحقيق هدف توسيع قاعدة التعليم الثانوي، والفني، والمهني، وبدلاً من تلمس الأسباب الحقيقية، ومجابهتها، فإن بعض الحلول المقترحة، هو المعاهد العليا فوق المرحلة الثانوية، أي الدراسة الجامعية، وهي الحل المقترح لنشر التعليم الفني، والمهني. وهنا نصطدم بالصنم الكبير، وهو التوجيهي، فتظهر فكرة إلغاء امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة، بالطريقة التي تم فيها إلغاء امتحان شهادة الدراسة الإعدادية \"المترك\"، كحل لهذه المعضلة، وتستطيع وزارات التربية والتعليم أن تناقش هذه الفكرة في ندوة واسعة، يشارك فيها كبار المفكرين، أو أن تكلف بها مراكز الدراسات، والبحوث في الوزارات، ثم تخصص ندوة، لمناقشة الآراء المؤيدة والمعارضة . ونذكر هنا بالخير،في الأردن, معالي الدكتور عبدالله النسور، الذي ملك جرأة الوزير، حين أقدم على إلغاء فكرة الطالب الفاشل، ومنحه فرصة أولى وثانية، وهون عليه الطريق، ليعبر إلى الضفة الأخرى، ويستعيد ثقته بنفسه، وليست لدينا إحصائية تبين عدد الأطباء، والمهندسين، ورجال الأعمال، وكبار الموظفين، وأساتذة الجامعات، الذين اجتازوا امتحان الثانوية العامة، بالطريقة التي صنعها هذا الوزير، ولولا جرأته المشهود له بها، لبقي التوجيهي كما هو في سالف الزمان، حجر عثرة في طريق كل الأجيال، إذا قصر الطالب في علامة، ترتب عليه إعادة قراءة كل المواد وعليه أن ينجح بها، فكان الناجح يقرأها مرة واحدة، بينما كان الراسب، يقرأها عدة مرات، ويسمى فاشلاً ..! ونذكر لهذا الرجل شجاعته، عندما اتخذ قراره بتعطيل المدارس يوماً آخر، هو يوم السبت، رغم كل الأصوات المعارضة، وقد تبين للناس فيما بعد، عمق تفكير هذا الرجل، وبعد نظره. نحتاج الآن إلى استعارة جرأة هذا الوزير، لكي يكون وزراء التربية على الأقل، مستمعين جيدين، لفكرة إلغاء امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة، وكسر هذا الصنم، الذي ظلت الوزارات تفاخر بخدمته، ورعايته، كما كانت قريش تفعل من قبل بأصنام مكة. أما وقد تم كسر الصنم الصغير\"امتحان الصف السادس\" والصنم الآخر\" امتحان شهادة الدراسة الإعدادية\"المترك\" فلماذا تبقى الفأس معلقة برأس الصنم الكبير\"التوجيهي\"؟ لماذا لا يتم إنجاز فكرة المدرسة الثانوية الشاملة، التي يتم تصنيفها إلى دراسة الدين، والعربية، والعلوم الإدارية، والاجتماعية، والعلوم الطبيعية، والعلوم التقنية، كهرباء، ميكانيك، رسم هندسي، حاسوب،..إلخ، بحيث يتكون المنهج من 100ساعة دراسية معتمدة على نظام المقررات، توزع 44ساعة متطلبات عامة، لغة عربية، ودين، وتربية وطنية،100ساعة للتخصص، 36 ساعة مواد إختيارية، انجليزي، رياضة، فن، حاسوب،..إلخ إن فكرة المدرسة الشاملة، القائمة على إلغاء الفصل بين التعليم الفني، والأكاديمي، وجعله كله في مؤسسة واحدة، تتعدد فيها المسارات الأكاديمية، والتقنية، بدلاً من التقسيم التقليدي، إلى علمي، وأدبي، وتقني. هذا التنظيم يتيح للطالب حرية الاختيار، ومرونة التحول، ويلغي النظرة الدونية للتعليم المهني، ويساعد على توفير قدر من الثقة بالنفس، ويقضي على ما يسمى بثقافة العيب.واضح الآن أن امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة \"التوجيهي\",قد تسبب في هدر طاقات الشباب وابداعاتهم ,على مدار عقود مضت .نحتاج الآن إلى تدارك هذا الخطأ بسرعة كبيرة,وجرأة تليق بالهدف الكبير ,.. يجب إلغاء التوجيهي ,يجب اطلاق طاقات الشباب ,يجب رعاية الابداع والموهبة مبكراً,.. التوجيهي حجر عثرة ,التوجيهي معضلة ,.. هذا ما يقوله الناس ! صالح خريسات [email protected]