استيقظت بلادنا في بدية التسعينات الهجرية على بداية طفرة أشعل فتيلها صندوق التنمية العقاري، وترافقت قروض الصندوق مع أزمة إسكانية خانقة، فضلاً عن تهالك المباني القائمة في أنحاء البلاد، وجلها مبني من الطين، وبعضها من الحجر، وكانت وقتها البلاد تعاني من فقر هندسي وشيدت المباني والفلل وقتها بإشراف مهني وافد ناهيك عن التصاميم التي كانت تعتمد المناخات الممطرة، وكان لتلك الفترة عذرها، لكن حال المكاتب الاستشارية والهندسية مازال متدني ويفتقر للمهنية الإبداعية، إضافة الى استمرار الدخلاء ممن يسمون أنفسهم متخصصين بالخبرة، أومساحين أو مراقبين الأمر الذي فاقم من ضياع الهوية، وسط مهنة بدون تصنيف كماهو حال شركات المقاولات، وهجوم الكبار على الصغار لإفراغ مكاتبهم من المواهب، وبتواجد هيئة متفرغة للجباية. هذه القضية عرضناها في(العمران والتنمية) على المستشار الدكتور مهندس خالد بن عبدالعزيز الطياش وقد استهل حديثه قائلاً: د. خالد الطياشي المكاتب الاستشارية والهندسية لدينا تعاني من حالة عدم وضوح الرؤيا الحاضرة والمستقبلية لها، سواء من جانب اصحابها او زبائنها ومازالت هشة الكيان استثماريا ومرجعيا ووظيفيا لمنسوبيها فمجال الاستشارات الهندسية مجال خصب يحترف سرقته الكثير سواء في المجال المهني او التقني او الوظيفي في ظل غياب المحكمة والقاضي وامتناع أي محامٍ للترافع عن حال هذه المهنة وماتعانيه ليقينه بأن القضية المترافع عنها خاسرة فالشق اكبر من الرقعة، ففي ظل عدم وضوح المفهوم الحقيقي للمهنة يصبح معظم افراد المجتمع معماريون ومخططون بدرجة علمية عالية حتى لو كانت حصيلة المتحدث او المحكم العلمية هي الابتدائية الليلية يظهر ذلك عندما يكون الكلام في مجال الاستشارات الهندسية او العمارة والتخطيط، أرى هذه الظاهرة في كل اجتماع وفي كل مناسبة اجتماعية فالكل يفتي في هذا المجال، فمهنة الهندسة والعمارة الكل أخذ منها نصيبًا ، فعلى المستوى المهني وقبل سنوات مضت وبالتحديد في عام 1401 قامت البلديات آنذاك باعتماد وتطبيق نظام يعتبر أكبر ضربة توجّه لقطاع الاستشارات الهندسية عامة وللعمارة والعمران خاصة، وذلك بأن سمحت لكل من يحمل لقب مهندس أي كان تخصصه ولكل التخصصات الهندسية المختلفة بالتصميم المعماري واعتماد المخططات التنفيذية لجميع الوحدات السكنية عن طريق منح كل مهندس مهما كان تخصصه بطاقة مؤهلة لاعتماد عدد معين من المخططات التصميمية والتنفيذية في الشهر الواحد وبذلك فتحت الباب على مصراعيه لمزيد من مظاهر التشويه المعماري والعمراني الذي مازالت مدننا تعاني من آثاره حتى الآن، ثم ألغي هذا النظام بعد فترة عندما أصبحت تواقيع الاعتماد تُباع للمساحين والرسامين ومراقبي الانشاءات الذين يقومون بعمل الرسومات التنفيذية للمشروع ووضع ختم وتوقيع المهندس المشترى منه التوقيع لاعتماده والكل يأخذ نصيبه من هذه الغنيمة، هذه حال مهنة الاستشارات الهندسية في فترة كانت فيها النهضة العمرانية في امس الحاجة إلى اللمسة الفنية والمعمارية، فلقد كانت بلادنا تعيش في مرحلة نمو عمراني كبير فكان الضرر أقوى وأشمل نتيجة قرار لم يدرس بما فيه الكفاية ولم تؤخذ أبعاده المستقبلية بالحسبان ثم جاءت بعد ذلك مرحلة نماذج الوحدات السكنية التي تباع لكل من أراد بناء مسكن والتي تريح إدارات الرخص في البلديات من تدقيق المخططات وتجبر المواطن بطريقة غير مباشرة على تنفيذ مسكن يفرض على الساكن التأقلم مع مكوناته بدلاً من أن يملئ الساكن متطلباته على مصمم مسكنه وبهذه المرحلة قلصت البلديات دور المكاتب الاستشارية والهندسية عامة والمعماري خاصة في التصميم فهي لم تفرض على المواطن تطبيق تلك النماذج ولكنها سهلت واختصرت الطريق للحصول على المخطط ورخصة البناء بأقل جهد وتكلفة ولكن كان ذلك على حساب الجمال والإبداع المعماري الذي تخلو منه النماذج الجاهزة للتنفيذ وبهذه المرحلة تم اقتناص جزء آخر من عمل المكاتب الاستشارية والهندسية والحد من تطوير العمارة والعمران. الوضع الحالي اختلطت فيه جميع الأوراق وأصبح وضع المكاتب الهندسية والاستشارية عموماً يحمل من السلبيات أكثر من الإيجابيات، ففي بلادنا أكثر من ألفين وخمسمائة مكتب هندسي واستشاري حسب السجلات الخاصة بالمكاتب الهندسية والاستشارية تختلط فيه جميع التخصصات وهو عدد هائل وكبير ولكن بالتدقيق نجد أن عدد المكاتب التي تعمل فعلاً في مجالها الحقيقي لا يتجاوز اثنين ونصف بالمائة من إجمالي عدد المكاتب أي في حدود الستين مكتباً والبقية الباقية بعضهم يعيش على بيع نصيبهم المقرر من التواقيع المعتمدة وصاحب المكتب يعمل في مجال قد يكون مختلفاً كلياً عن مجال الاستشارات الهندسية والبعض الآخر نراه قد سلم المكتب إلى أحد الاخوة الوافدين واكتفى بمبلغ شهري بسيط ثمناً للاسم والتوقيع اعرض فيما يلي بعض مايواجه تلك المكاتب الاستشارية والهندسية من عقبات وصعوبات: رغم مرور سنوات عديدة على بدأ خدمات المكاتب الاستشارية والهندسية في بلادنا الا ان هذه المهنة لا تزال بدون تنظيم حقيقي وجذري حيث تفتقد للتصنيف التخصصي (علما بان الوضع الراهن في موضوع التخصص مبنى على اجتهادات اصحاب تلك المكاتب دون تدخل من الجهات المفروض ان تكون هي المصنفة والمسئولة عن ذلك) وبالنظر الى الاعداد الهائلة من المكاتب الاستشارية والهندسية المصرح لها نجد ان الزبون سواء من القطاع العام او الخاص يعتمد في تصنيفه لتلك المكاتب على سابق الاعمال او نصائح الآخرين لهذا المكتب او ذاك او العلاقات الشخصية بين الزبون وصاحب المكتب كل ذلك في غياب تصنيف معتمد صادر من جهة رسمية يوضح حال تلك المكاتب الاستشارية والهندسية في كثير من القطاعات العامة والخاصة لا تكون متطلبات المشروع ولا نطاق العمل واضحة في المشاريع المطلوب اعداد التصاميم الهندسية لها عند دعوة المكاتب الاستشارية للدخول في المنافسة وهذا ينعكس سلبا على مايقدم من اقتراحات تصميمية وحلول هندسية قد تمس مكونات المشروع التصميمية ووظائفه او قد تمس حجمه ومساحاته ونطاق العمل المطلوب تصميم المشروع ضمنه، المكاتب الاستشارية تجد نفسها في حيرة من امرها وتبني معظم مقترحاتها التصميمية بناء على ماتراه في ظل غياب المعلومه من قبل الزبون او عدم وضوحها او عدم قدرة المكاتب الاستشارية على معرفة ماذا يريد الزبون بالتحديد لعدم قدرته على ايضاحها وتكون تلك العقبات ظاهرة عندما يكون الجهاز الذي يقوم باعداد متطلبات المشروع ونطاق عمله في القطاعات العامة والخاصة غير متمكن ومحدود الكفاءة والخبرة وليس لديه المعرفة الكافية لما هو مطلوب في المشروع فيقوم بتقديم متطلبات مقتضبة لا تساعد المصمم على فهم المشروع ووظائفه وتقديم الافضل عند التصميم تعاني معظم المكاتب الاستشارية والهندسية من عدم البت في المناقصات خلال وقت قصير حيث يترتب على ذلك استمرار حجز الضمان البنكي المقدم من تلك المكاتب وتزداد المعاناه اكثر عندما يكون المكتب قد قدم لاكثر من مشروع في عدة قطاعات وبالتالي يصبح لديه كثير من الضمانات البنكية المحجوزة مما يجعله يعاني من قلة السيولة المالية دون أي مبرر لذلك بدأت في الآونة الاخيرة ظاهرة هي في تزايد مستمر فلقد لوحظ ان عدد من المكاتب الاستشارية الكبيرة وشركات المقاولات تتبع سياسة جلب الخبرات والمواهب الابداعية من المكاتب الاستشارية والهندسية الاقل حجما وامكانيات حيث يتم أغراء اولئك الاشخاص ماديا وتفريغ تلك المكاتب التي في طور النمو واكتساب الخبرات من تلك المواهب، وباستمرار تلك الظاهرة على المدى القريب سوف يكون لدينا مكاتب استشاريه متضخمه الى حد التشبع ومحدودة العدد تحظى بالنصيب الاكبر من المشاريع وتسيطر على معظم الاعمال المطروحة في السوق مقابل اعداد كبيرة من المكاتب الاستشارية لا تجد ما تدفعه رواتب لمنسوبيها نتيجة قلة الاعمال المقدمه لها اضافة الى تفريغها من مهندسيها تقييم المنافسات المعمارية وتحكيمها في القطاعات العامة والخاصة لايزال يخضع لتحكيم المسئولين في الجهة الداعية لتلك المنافسات او بفرض لجنة تحكيم غير مؤهلة، فلقد جرت العادة على تكوين لجنة الحكم على العروض المقدمة من منسوبي القطاع وفي احيانا كثيره يكون اعضاء هذه اللجنة هم بعض الموظفين ذوي المناصب العليا ويكون حضورهم شرفي اكثر منه عملي او قد تكون لجان الحكم متواضعة الكفاءة والخبرات، كما جرت العادة في معظم القطاعات عدم الاستعانة بأي جهة علمية او مهنية للمشاركة في التحكيم من خارج نطاق القطاع لاعتبار ذلك تقليل من كفاءة القطاع وضعف امكانياته البشرية الهيئة السعودية للمهندسين فشلت فشلا ذريعاً في تقصي حال ومشاكل ومعاناة المكاتب الاستشارية والهندسية والمهندسين بصورة اكثر شمولية ومازالت تدور في حلقة مفرغة وهي الجهة المنوط بها الارتقاء بالمهنة ومنسوبيها ولم يكن حال مجلس الادارة الحالي افضل من سابقه فلا نرى على الساحة سوى بضع محاضرات بين الحين والآخر ليست بحجم واسم الهئية السعودية للمهندسين والتي تضم في عضويتها اكثر من عشرة آلاف مهندس وتتمتع بامكانيات مالية وتشريعية وتنفيذية هائلة لم تجد من يفعلها لصالح المهنه منذ انشائها القطاع الحكومي والقطاع الخاص ساهما إلى حد كبير في هذا الواقع الهندسي، فمعظم القطاعات الحكومية والخاصة دائماً توجّه خطابات الدعوة للمنافسة أو المسابقة لأي مشروع لديها لعدد معين ومعروف عند كل قطاع وبشكل مستمر لنفس المكاتب نتيجة لقناعة المسؤولين في تلك القطاعات بأن تلك المكاتب الاستشارية المختارة هي الأفضل ومكتب يعرفونه أحسن من مكتب لا يعرفونه ولم يسبق لهم التعامل معه ، هذا هو المفهوم الذي يتم اختيار ودعوة المكاتب الاستشارية بموجبه ، ولقد أدى ذلك إلى حصر الأعمال الاستشارية للمشاريع لعدد معين من المكاتب وبقي العدد الكبير منهم بدون عمل مما يقوده في النهاية إلى استحالة الاستمرارية في هذا المجال والبحث عن مجالات أخرى أكثر ربحاً هذه بعض العقبات والمصاعب التي تواجه المكاتب الاستشارية والهندسية لدينا وتعيق تطورها وبالتالي استمراريتها، ليست هناك جهة واحده ممكن ان تزيل كل تلك السلبيات ولكنها جهات عده، حبذا لو تكاتفت الجهود نحو ازالة كل تلك السلبيات او جزء منها بأقل تقدير.