من أعرق الأصول العلمية هو القول على القول، وذلك حينما يأتي رأي أو قول لمجتهد فيثير ذلك شهية المعاصرين واللاحقين على شرح هذا القول أو تأويله أو معارضته، وهذا باب علمي عريض تأسست عليه المعرفة البشرية عبر التراكم والتتابع وتلك هي الشجرة العلمية البشرية، وكتب التراث تشهد على هذه التفاعلية الحية، وكثيراً ما ترى الكتاب الأصل قد تفرع إلى كتب عبر الحواشي التي لا تقف عند حد إذ يتبع الحاشية حاشية أخرى، أي حاشية على الحاشية، وتنطلق من المتن الأصل لمؤلف معين إلى شرح يقوم به تابع له ثم يأتي من يضع حاشية على المتن والشرح معاً، وقد تجد من يضع حاشية على حاشية، وربما اكتشف أحد هؤلاء أنه قد وضع كتاباً أكثر اتساعاً وإحاطة من الأصل كما جرى مع كتاب القاموس للفيروزبادي حث هم الزبيدي بشرحه ووضع حاشية تحت نية شرح القاموس فإذا به ينتهي إلى كتاب ضخم سماه (تاج العروس) وصار هذا معجماً لغوياً قائماً بذاته، وهو في الأصل حاشية وشرح للمتن الأول. ولقد حدث لي تجربة حية ومباشرة مع هذه العملية العلمية الحية وذلك في مجلس الدرس مع الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - وعندي وبخط يدي شروحات له كان يمليها علينا على متون الكتب، ومنها شروحات له على كتاب (شرح ابن عقيل) في النحو، وكان يدرسنا النحو في السنة الثالثة المتوسطة، والمقرر هو شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وفي مطلع العام وزعوا علينا الجزء الأول من الكتاب وهو متن ضخم يغطي أهم المداخل النحوية، وكان الكتاب مغلفاً بغلاف ورقي، ومن حرص الشيخ على الكتاب وعلى مستقبلنا مع ما في الكتاب من علم وما يخططه الشيخ من نية في الشروحات والتعليقات، فقد قام بجمع الكتب من أيدينا ثم أرسلها مع أحد من يثق بهم إلى الرياض وذلك من أجل تجليدها، وقد جلسنا ندرس لمدة أسبوعين من دون كتب انتظاراً لعودة كتبنا من الرياض بعد تجليدها، ولقد نبهنا الشيخ إلى كتابة اسم كل واحد منا على كتابه حتى لا تختلط النسخ بعد عودتها مجلدة من الرياض، وهذا ما صار ومازلت احتفظ بالكتاب مجلداً وعليه اسمي وتاريخ تسلمي للكتاب (1382/1962) وفي داخل الصفحات كانت تعليقات الشيخ التي كان يمليها علينا ونحن نكتب، وما زلت أرجع إليها كلما احتجت إلى فك أسرار مسألة لغوية أو نحوية، وكان من فضل الشيخ علينا أنه رجل جاد ومهيب حتى لم نكن نجرأ على العبث في الفصل حين حضوره، بل انك ليصعب عليك أن تنطلق في الهواجيس أو الغفلة عند الدرس فهو - رحمه الله - على درجة من التيقظ والتنبه حتى ليلاحظك فيما لو سهوت أو سرحت ويحتال حينها بحيلة تعيدك إلى الانتباه وذلك بأن يطرح عليك سؤالاً مفاجئاً أو أن يركز نظره عليك، وهذا ما جعلنا على حال من الحضور الذهني التام معه، ولقد كان النظام الدراسي في تلك الفترة أننا ندرس عاماً دراسياً كاملاً دون امتحانات شهرية ولا نصفية، وعندنا امتحان واحد في نهاية العام، ومن ديدننا أننا نهمل في المراجعة ولا نشرع في المذاكرة إلا حين اقتراب موعد الامتحان بشهر تقريباً، وهو الشهر الوحيد في السنة كلها الذي نتعامل فيه مع المقررات مذاكرة وتمعنا للتجهيز ليوم الحسم، وهنا أذكر أنني استبعدت درسين من مذاكرتي أحدهما مادة العروض، حيث انني أتقنت البحور الشعرية والأوزان من أول درس عرفت فيه فك لغز الايقاعات الشعرية بسبب مهارة عند أستاذنا عبدالله الحسن البريكان - رحمه الله - في ايصال رسالة الخليل بن أحمد لنا حول موازين الشعر، أما المادة الثانية فكانت مادة النحو وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وما كنت بحاجة لمذاكرتها وما كنت خائفاً من الامتحان فيها - مع صعوبتها الكبرى خاصة على سن فتيان في الخامسة عشرة من أعمارهم، وذلك لأن طريقة الشيخ في التدريس وفي جدية التعامل كانت قد ثبتت المواضيع في نفوسنا، ومازلت أتذكر الكلمات وأرى في ذاكرتي البصرية الصفحات واللفتات، حتى بعد مرور خمسين عاماً على مجلس الدرس مع الشيخ، وهذا الكتاب الذي درسناه في المرحلة المتوسطة تحول الآن ليكون مادة تخصصية جامعية ويرى الطلبة اليوم أنه صعب ومعقد. لقد صرت أعود بذاكرتي لتلك الأيام وأتعجب فعلاً كيف كنا نتحمل كل ذلك الكم من المعرفة التخصصية ومع أستاذ مهيب بحجم الشيخ ومقامه، ومثل شيخنا العثيمين كان شيخنا علي الزامل - رحمه الله - وهو رجل وصفه عارفوه بأنه أنحى أهل زمانه وذلك لشدة تبحره في النحو واللغة، اضافة إلى علمه الشرعي وثقافته الواسعة حتى في علم العروض، وكنت أجلس في مجلسه في العصريات وأنهل من علمه اللغوي والشرعي، أما في المعهد فكان يدرسنا أصول التفسير، اضافة إلى التفسير، ويتبع أسلوب الرواد من أهل العلم بإملاء شروحاته وملاحظاته على المادة، وشروحاته عندي لما تزل، ومنها نهلت ومازلت أنهل علماً عظيماً وفقها عميقاً في تفكيك المصطلحات والمفاهيم. وفي آخر سنة لنا في المعهد كان موعدنا مع مادة (أصول الفقه) ومع الشيخ العثيمين، وهذه مادة كانت من أحب المواد إلى نفسي، ومنها ومن الشيخ تعلمت أصول المعرفة وزادت فتنتي بالمصطلحات والنظريات والمفاهيم منذ ذلك الزمن، وكان الكتاب المقرر هو كتاب (شرح الورقات في أصول الفقه) لأبي المعالي الجويني، وهو إمام شافعي ألف هذا الكتاب المعمق والمكثف وهو ورقات من حيث العدد ولكنه كنز معرفي عميق شغل من جاء بعده، وأولهم جلال الدين المحلي وهو عالم شافعي آخر شرح الورقات، وكان من حسن تدبير رئاسة المعاهد العلمية أن قررت علينا هذا الكتاب الكنز ثم صار لنا حظ عظيم حيث درسناه على يد شيخ محب للمصطلحات ومفتون بالأصول المعرفية ولغة المفاهيم، وهنا كان الشيخ محمد يشرح لنا ويملي علينا تعليقاته، ولن أنسى أبداً درسه الأول عن مفهوم (التقليد) وكيف تبحر في هذه المفردة لغوياً من وضع القلادة على العنق، وراح يطيل في هذه القضية حتى صرت أتبين عملياً كيف هي حال الشخص إذا كان مقلداً وكأنما يقاد بالحبل مثل الدابة. أخذ المعنى اللغوي من نفسي مأخذاً حساساً جداً، وظللت أتصور القلادة في الرقبة، ولم يتركني الشيخ مع خيالي هذا حتى شرع في كشف المعاني الاصطلاحية للتقليد، وهو يأتي بتفسيرين للمعنى أحدهما: هو قول الرأي بلا حجة، والثاني: قبول قول القائل وأنت لا تدري من أين قاله ولا تعلم مأخذه في ذلك. كان الشيخ يقول لنا هذا ويفعله معنا عملياً، ولذلك فإن ديدن الدرس عنده أن تقول الأفكار على الدليل والبرهنة، ونقف وقفات طويلة وممتدة على الأسئلة ومتابعة السؤال بالسؤال حتى نستنفد كل ما في طاقتنا من المحاجة والتساؤل، ولم يكن الشيخ يتردد في إيقاف أحدنا مدة من الزمن والشيخ يطرح عليك السؤال من بعد السؤال وأنت واقف بين زملائك وهم جلوس ورأسك يدور بك ولسانك يلاحق الاجابات التي يفندها الشيخ واحدة بعد أخرى ليعود بك إلى نقطة البداية، وإذا احترت واحتار من معك في القاعة تكلم الشيخ، وقد يشفي غليلك من نفسك حينما يكشف لك أن المسألة هذه لا جواب عليها، أو أنها تحمل أجوبة متعددة أو أنها مما توقف عنها العلماء، من مثل مسألة (التعارض) بين مسألتين، وبأيهما نأخذ، وفيها أربع مراتب - كما أملى علينا الشيخ من بعد حوار طويل وكنت أنا موضع التجربة في تلك المسألة ولذا رسخت في ذهني بعد أن أوقفني ساعة في النقاش من بين كل زملائي - والمراتب الأربع المسجلة عندي على ورقي وبإملاء الشيخ هي: 1- الجمع بينهما إن أمكن. 2- أن نعمل بالمتأخر إذا لم يمكن الجمع وعلمنا بالتاريخ. 3- أن نعمل بالراجح إذا لم يمكن الجمع ولم نعلم التاريخ. 4- التوقف. ولقد كانت المسألة التي طرحها عليّ تستدعي المرتبة الرابعة، وكان الشيخ في ذلك يحاول تدريبنا على المواضعة العلمية في خوض تجربة الأسئلة ومعاينة كافة الاحتمالات الدلالية والاستنتاجية. هذه كلها تجربة حية عشتها مع شيوخ أجلاء في ممارسة الفعالية العلمية وبناء الهرم العلمي، أو ما سميته هنا بالكتاب على الكتاب، والقول على القول. وأخيراً أشير أن الشيخ - رحمه الله - قد أخرج بعد ذلك كتاباً وافياً بشرح نظم الورقات في أصول الفقه، حوى المسائل الأصولية كلها، ولكنني ظللت وفياً لكتابي الخاص وعليه تعليقات بقلمي من إملاء الشيخ، وأحسها تحمل عرق جبيني وأنفاس حياتي وتعيدنا إلى سني الطلب في المعهد العلمي وتحديداً عام 1964 حيث كان الدرس وكانت السنة النهائية في المعهد قبل النقلة إلى الرياض في كلية اللغة العربية. وعلى مدى السنين ظل الكتاب يصحبني ويرفدني معرفياً ونظرياً، في علم هو من أعظم علوم التفكير المعرفي والمنهجي، وأنا مدين في وعيي النظري لهذا التأسيس المبكر في حياتي.