من عرف المقناص وتولع بالصقور فلن يتنازل عن هوايته أبداً.. وهذا هو حال أبناء المملكة منذ العهود القديمة الذين عُرفوا بولعهم وتعلقهم الشديد برياضة الصيد بالصقور، فتعددت مواقفهم السعيدة والشيقة معها، عاشوا من خلالها مفارقات مثيرة وطريفة.. وإذا كانت هذه الرياضة العربية التراثية العريقة هي رياضة الملوك والأمراء، فلا يُذكر المقناص وعشق الطير إلا ويُذكر جلالة الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود «رحمه الله» لعشقة لرائحة الصحراء وعبق الأرض العربية وتراث البادية، وعشق المقناص و»طيب المخوة» ومعشر أصدقائة في رحلات الصيد. ونظرة عميقة إلى الملك خالد نجده يمثّل البيئة العربية الصحراوية، بما تحمله من معانٍ وصفات جميلة سواء في الجانب النفسي أو الأخلاقي وعلاقاته مع عامة الناس؛ فقد جمع في شخصه كل المحامد التي يُزكيها الإسلام وتكبرها البيئة العربية الأصيلة وتحبذها الإنسانية الراقية، فكيف إذا كان هذا الإنسان أحد أبرز الصقارين المعروفين بالمواقف الإنسانية والحكمة والصبر. الملك خالد -رحمه الله- حاملاً أحد الصقور النادرة الملك خالد والقنص أما عن حبه للصيد بالصقور ورحلاته فيها، فلا يُذكر المقناص إلا ويُذكر الملك خالد رحمه الله ، فقد اشتهر بحرصه الشديد على اقتناء ومعرفة معظم أنواع الصقور والخيول والإبل معرفة كاملة، حيث يعد جلالته موسوعة عزّ مثيلها. ومن دلائل المعرفة الكبيرة لكل دقائق الخصال في هذه الحيوانات، ما رواه طبيبه الخاص حين كان مرافقاً له في زيارة لباكستان، حيث أمضى معه يوماً كاملاً في الصيد. يقول الطبيب: (لقد بدأت عملية الصيد منذ الصباح الباكر، ولم تنته إلا عند الغروب، وأثناء عودتنا بالسيارة شاهد الملك خالد جملاً أعجبه، فقال: يا دكتور، ابحث عن مكانه.. فقمت بتحديد المكان ورجعت فيما بعد لأهل الجمل، وسألت عن صاحبه، وعرفت أنه أشهر جمل في المنطقة، لكن صاحبه رفض بيعه، لأنه يعتبره كأولاده. وهذا يدل على أن الملك خالد عرف أصالة الجمل من نظرة واحدة). وفي القنص كان الملك خالد يعمل على ترابط أصحابه وتآلفهم وتحاببهم، وله برنامج منظم؛ إذ يحرص على تأدية الصلاة جماعة وخاصة الفجر، كما كان يُساعد أصحابه في إعداد الطعام، ولا يجعل بينه وبينهم مسافة إنما دون أن يفقد هيبته كملك. وقد كان خروجه للمقناص مدعاة خير وبركة على أبناء البادية في المناطق التي يخرج إليها، فكانوا يستبشرون بخروجه، ويتحينون الوقت للالتقاء بجلالته، وكان هو بنفسه يتوقف عندهم، يسمع منهم، ويتحدث إليهم ويحل مشكلاتهم، ويغدق عليهم من مشهور كرمه. كما اشتهرت رحلاته للمقناص بكثير من الطرف، بل والحكايات الممتعة، إذ روى بعض ممن كان في صحبته عن أمور هي من قبيل النوادر الممتعة، فجلالته في مقناصه إنسان بسيط شديد الحفاظ على سعادة كل من يصاحبه، وأشد حرصاً على تحقيق الخير لكل من كانوا يأتون على مخيمه. في حفر الباطن يحلو المقناص وفي محافظة حفر الباطن شمال المملكة تُعدّ رياضة الصيد بالصقور من أعرق الهوايات العربية التي تُمارس ببراعة ودراية، ويسعى أهالي محافظة حفر الباطن دائماً للمحافظة على هذه الرياضة كمظهر من مظاهر الأصالة العربية، حيث يتم الاهتمام بالصقور والعناية بها في أماكن مخصصة لمراقبة تصرفاتها وحركاتها وأمزجتها، ويقوم أشخاص مختصون بخدمتها وتدريبها وإعدادها، ويوفرون لها الطعام الجيد والعلاج اللازم لتصبح الصقور جاهزة للعمل عند حلول موسم الصيد، لما تشكله منطقة حفر الباطن مرتعا خصبا في فصل الربيع، ومكانا آمنا للصقور والحبارى لما تتسع المساحات الصحراوية في تلك المنطقة. وكان جلالة الملك خالد آل سعود (رحمه الله) يحب القنص في حفر الباطن، وفي إحدى رحلاته في روضة ابن حنايا، أطلق صقره الشهير (مشهور)، ولكن الصقر لم يعد، وكان الشاعر مرشد البذال قد قام مسيراً وعلم بقصة الضياع، وتأثر الملك عليه، فنظم قصيدة " الصقر مشهور" التي قال فيها: يا من يبشرنا عن الطير مشهور وابشره عند الملك له بشاره طيرٍ ليا شفته تجي فيه مجبور هو منوة اللي فاهم بالصقاره وتعرف براري حفر الباطن بأنها من أشهر مواطن الصيد على وجه الخصوص، وكان يقصدها الصقارون من مختلف أرجاء المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي لكونها ممراً لهجرة الطيور السنوية كالقمري والقطا والكدري والحبارى. وفي البدء كانت حفر الباطن تشهد توافد هواة القنص عليها لاصطياد الحبارى في مواسم الصيد المعروفة راجلين وراكبين يطاردون الحبارى في مخابئها ويطلقون صقورهم عليها ويلحقون بها لتخليص الفرائس من مخالبها القوية قبل أن تقضي عليها.. فكان الصقارون يقصدون أمكنة تواجد الحبارى على ظهور مطيهم حاملين معهم أمتعتهم وزادهم وشرابهم، يمكثون هناك لأسابيع يتنقلون من موضع إلى آخر تبعاً لوفرة الصيد، ولربما امتدت رحلتهم لتصل إلى أكثر من شهر أو شهرين، أما الآن وقد اختلفت وسائل المواصلات المستخدمة في القنص فقد حلت السيارات محل المطايا واختلفت أيضاً مواضع وبلدان القنص، وأصبح الصقارون يستعينون بأجهزة لاسلكية خفيفة لتحديد الأماكن التي تبعد كثيراً عن مكان الصيد. وللصقور أسماء شائعة في مناطق المملكة، مثل فلاح وعزام وعماس وراكان ونواف ومنصور، وأسماء أخرى تدور في مجمل معانيها حول صفات القوة والجرأة والشجاعة والفأل الحسن. مواقف إنسانية في رحلات القنص إنسانية الملك خالد أكدها كل من عرفه وتعامل معه حتى طغت على كل مواقفه، إذ كان متواضعاً شديد القرب من الناس وهمومهم، وفي لقاء مسجل مع محيسن البقمي في جدة، وهو من خاصة الملك، ومن الرجال الملازمين له طيلة حياته، حكى عن الملك خالد في مقناصه حكايات مؤثرة. قال البقمي: ذات مرة عندما كان الملك خالد "أميراً" واتجهنا للقنص في شمال المملكة، وكعادة الملك خالد إنه كثير السؤال كثير الاستفسار عن أحوال الناس ومعيشتهم، كما كان دائم السؤال عن الصيد، وكانت رحلاته للمقناص رحلات استكشاف للأحوال الاجتماعية، وللظروف الإنسانية التي يعيشها أهالي مملكته خارج المدن، فهي رحلات صيد وعمل وحكم. ويتابع البقمي يقول: امتد بنا المسير حتى الأطراف الشمالية للمملكة، وعلى حين فجأة لاح من بعيد، منزل وحيد منعزل عن الحياة والناس، وهو خيمة عتيقة بالية، كل ما حولها خلاء وصحراء، وكان منظر هذا البيت الصغير الوحيد يوحي فعلاً بالتساؤل: من هذا الذي يعيش في الخلاء القاحل؟. طلب الملك خالد أن نتوقف للسؤال عن صاحب هذا البيت لنعرف السر ولعلنا نجد عنده معرفة عن أحوال الصيد في هذه المنطقة، ونزولاً عند رغبة الملك خالد وإرادته تقدمت نحو المنزل، وناديت بأعلى صوتي حتى يؤذن لي: يا صاحب البيت.. يا صاحب البيت.. ولكن لا مجيب.. عند ذلك لاحظ الملك خالد أن في الأمر شيئاً.. فأمرني أن أتوقف في مكاني ولا أبرحه، وجاء سموه يركض بأقصى سرعته، حتى وصل إلى مكاني، وقال: توقف يا محيسن.. فإن صاحب هذا المنزل إما ميت أو مريض أو به شيئاً، وكان يريد بذلك أن يكون هو المسؤول عن دخول البيت إبعاداً بي عن المسؤولية التي يُمكن أن تحدث واستأنف الملك خالد النداء بأعلى صوته: يا صاحب البيت.. ولكن دون جدوى. استمر الملك خالد يسير تجاه المنزل ببطء حتى وصل إلى مدخل المنزل وأمسك بيده طنب الخيمة، وإذا به يتوقف في مكانه.. وقد أذهله ما رأى، وأفزعه ما شاهد، حتى أدركت أن في الأمر شيئاً خطيراً، وناداني بهدوء: تعال يا محيسن، وتقدمت فإذا المنظر المخيف موجع للقلب، لم أكن أتصور أن الإنسان يمكن أن يكون بهذا الشكل المخيف حين ينزع الله عنه ثوب العافية.. رجل وحيد مريض، اشتد عليه المرض حتى إنه لا يقوى على الكلام، وكأن عظامه لم تُكسَ لحماً من قبل. سأله الملك خالد: هل أنت مريض؟ قال: نعم، قال له الملك خالد بقلب يقطر ألماً، ووجه يشع تأثراً وأسفاً: منذ متى وأنت مريض؟ قال الرجل: من عام، فسأله الملك خالد: هل لك عيال؟ أجاب المريض بصوت ضعيف متقطع: ولد واحد، زوجتي وولدي الوحيد عند الإبل والغنم، ثم عاد وسأله: إذا رزقك الله بفاعل خير يُرسلك للكويت للعلاج أتستطيع الذهاب؟ (كان ذلك قبل أن يكون في المملكة مراكز طبية متقدمة)، قال الرجل.. وكأن العافية دبت فيه لمجرد أن سمع كلمة العلاج: نعم.. الشيء الذي يأتي منه عافية أريده.. فأمرني الملك خالد أن أقتفي أثر ابنه وآتيه به، ثم أرسلني للعرب القريبين لأحضر اثنين منهم، وهو لا يزال جالساً مع الرجل المريض، لم يشرب القهوة ولم يسترح. وعندما حضر اثنان منهم، قال لهم الملك خالد: أريد منكم أن تكفوني هذه المرأة (زوجة الرجل المريض) وإبلها وغنمها وتحفظوها لي وأعطيكم الذي تريدونه، فقالوا: والله ما نأخذ شيئاً وسنحفظها ونحرص عليها وهي في بيتها ونرعى إبلها وغنمها وأنت جزاك الله خيراً ثق بنا يا ابن عبد العزيز. هذه واحدة من مواقفه الإنسانية الكثيرة في الشمال وفي الجنوب واحدة مثلها.. ففي إحدى رحلاته للقنص في الربع الخالي شاهد عن بُعد امرأة تركض في الخلاء تجري على غير وعي أو اهتداء، فتساءل الملك: من هذه التي تجري في هذا المكان الذي تخافه الوحوش وتنفر منه الضواري؟.. لا بدّ أن بها مصيبة ما تفوق هول الربع الخالي، فأمر الملك خالد السائق أن يتوقف، ونادى المرأة: يا امرأة ما بك؟ إنك تضربين التهلكة، ما الذي رمى بك في هذه الأماكن الموحشة الخالية؟ فقالت أبحث عن إبلي.. امرأة في شبابها وقوتها تجري على غير هدى في الصحراء الدهماء بحثاً عن إبلها، وتدور في "رأس خالد" أفكار وخواطر الخوف على هذه المرأة التي يمكن أن تكون مطمعاً لأصحاب الشر في هذه الأماكن القاحلة، فيقول لها الملك خالد وقد جزع عليها: ما رأيك لو أتاك فاعل خير وأعطاك مالاً تستأجرين من تثقين به للبحث عن إبلك؟ وتتوقف المرأة لتأخذ أنفاسها فقد كادت تفارق الحياة تعباً من الجري.. لقد عادت إليها الحياة ووافقت على "عرض خالد" دون أن تعرفه. مركز الملك خالد لأبحاث الحياة الفطرية بالثمامة كان المغفور له دائم الحرص على توجيه شعبه لأهمية صون الخيرات التي أنعم الله بها على الإنسان، وفي مقدمتها الزرع والحيوان، وفي ذلك يقول: (تعلمون، بارك الله فيكم، ما أنعم الله به على هذه البلاد وأهلها من الخيرات، وما رزقهم بفضله من الطيبات.... فالواجب علينا وعليكم شكر هذه النعم حتى تدوم وتستقر، وشكره هو بامتثال طاعته واجتناب نهيه، والاعتراف بهذه النعم باطناً والتحدث بها ظاهراً وصرفها في مرضاة سيدها ومولاها). وتقديراً لجهود الملك خالد بن عبد العزيز-رحمه الله- في حماية البيئة والحياة البرية، فقد أنشئ مركز الملك خالد لأبحاث الحياة الفطرية عام 1987م لإدارة وإنماء مجموعة الحيوانات الخاصة الكبيرة التي بدأها المغفور له في مزرعته بالثمامة، والتي تضم أكثر من 600 حيوان تمثل 20 نوعاً مختلفاً من بينها عدد من الأنواع العربية التراثية الهامة تعيش تحت ظروف شبه برية في مسيج مساحته 600 هكتار، ويقع مركز الملك خالد بالثمامة عند سفح جبل طويق ذي الطبيعة الخلابة على بعد 70 كم تقريباً شمال الرياض. وفي إطار تسهيل مهمة المركز قامت الهيئة الوطنية السعودية للحفاظ على الحياة الفطرية وتنميتها بإنشاء مختبرات بجوار المسيج الرئيس، إضافة إلى إنشاء 70 حظيرة إكثار مساحة كل منها نصف هكتار، كما أتيح للمركز أيضاً استخدام مجمع الاسطبلات بالثمامة. وقد ازدادت أعداد الحيوانات خلال السنوات الخمس الماضية من عمر المركز حتى بلغت أكثر من 1000 حيوان تمت إعادة تنظيمها بعد استبعاد كل الأنواع الدخيلة، وإعطاء الأولوية للأنواع المستوطنة مثل المها العربي (الوضيحي) وغزال الريم وغزال الادمي التي يقوم المركز بتطوير برامج علمية لإكثارها تحت الأسر، ويمتاز المركز بقدرات تشخيصية متطورة يتم استخدامها بفاعلية لمعالجة المشكلات المرضية إلى جانب احتوائه على الكفاءات العلمية المتخصصة والأجهزة الحديثة. أدوات الصقارة في التراث السعودي ومن أبرز الأدوات واللوازم المستخدمة في الصيد بالصقور في المملكة كباقي دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، نذكر (الوكر) وهو مجثم الصقر يربطه إليه مدربه للراحة والنوم، و(المنقلة) التي يستطيع الصقار إدخال يده فيها من الرسغ إلى المرفق، وتُصنع خصيصاً لحمل الصقر على اليد وهي تحمي الصقار من مخالب الصقر الحادة، وأيضاً (البرقع) غطاء رأس الصقر، و(السباق) الذي يربط أحد طرفيها برجل الصقر والطرف الآخر يربط بالمرسل الذي يكون مربوطاً بالوكر، أما (المرسل) فيتكون من ثلاثة أجزاء يربط الأول مع الجزءين الأخيرين أو ما يسمى (التبلاغة) ويفصل بينهما مشبك من الحديد يسمى (مدور) يساعد الصقر على التحرك في كل الاتجاهات، ويربط ساق الصقر بالتبلاغة الأولى وتربط التبلاغة الثانية بالوكر ومهمة السباق هي الحفاظ على الصقر ومنعه من الهروب، وهناك (المخلاة) التي يعلقها الصقار على كتفه وتحوي الحمام الحي وكل الأدوات المستخدمة في تدريب الصقور كالسكين والخيوط، و(التلاويح) التي تستخدم لتدريب الصقور المبتدئة على عمليات الصيد.