حينما كنا في هيوستن بأمريكا كنا شباناً، ونرغب في ان نتعرف على كل شيء، وان نرى كل شيء.. وكان في قلب المدينة حلبة للمصارعة، يشارك فيها أعتى المصارعين الأمريكان.. وكانت المشكلة في وسط هيوستن، وفي معظم المدن الأمريكية هي الخوف من اللصوص، وقطاع الطرق (والبلطجية) وأصحاب السوابق والمخدرات إلى درجة ان مسؤول معهد اللغة الذي كنا ندرس فيه قد حذرنا من الهبوط إلى قلب المدينة ليلاً.. وكان الأمريكان يحسبون حساباً للرجل القوي الفتي، وإذا رأوه وسط المدينة ليلاً، فهذا يعني انه مغامر، وأنه ممارس لمهنة الطعن والضرب، وكان معنا شاب اسمه: مبارك، كان عملاقاً، عتريساً، له عضلات مفتولة، وله كتفان بارزتان قويتان، ورأسه يشبه رأس الفيل جزالة وضخامة وله قبضتان من رآهما استجار بالله، من ضخامتهما، وقسوتهما وكان من يشاهده لا يشك في أنه يستطيع ان يصرع ثوراً!! وكان يشد على وسطه حزاماً أسود رمزاً (للدان) المتقدم في الكاراتيه.. وكنا إذا أردنا ان نذهب إلى قلب المدينة استعنا بصديقنا هذا، وسرنا خلفه كما يسير الجنود الصغار خلف قائد جبار.. والواقع أننا كنا ندفع لذلك ثمناً أو (اخاوة) كما يقال.. من ذلك ان ندفع له تذاكر دخول النادي الذي يحب ان يمارس فيه لعبة البلياردو والبولينج.. مع بعض الوجبات الدسمة في المطاعم الهندية والعربية، وبعض النثريات الضرورية الأخرى.. والحقيقة أننا لا نعرف إن كان صاحبنا هذا على قوته ونشاطه صاحب بأس، وشجاعة وسطوة، أم أنه مجرد هيكل فخم، ضخم، مهيب؟.. مع أنه دائماً يتحدث عن مغامراته وغزواته وصولاته، وكان زميلنا الأستاذ عبدالكريم العودة من المعجبين به ويسميه (أبو الفوارس) ويقول له: أنت مبارك وميمون النقيبة فيهز رأسه، مع أنه في أغلب الظن لم يكن يفهم معناها! وكان يكتب تخاريف ويعرضها على عبدالكريم على أنها شعر فيشجعه ويقول: هذا إبداع سيأتي عليه يوم يفهمه الناس!! المهم أننا ذات يوم ذهبنا لمشاهدة بطولة للمصارعة وسط المدينة (Downtown).. قطعنا التذاكر ودخلنا متجهين إلى مقاعدنا ذات الأرقام المحددة.. غير أننا وجدنا بعض الأشخاص قد احتلوها.. فأريناهم التذاكر، فلم يحفلوا بذلك.. فجاء صاحبنا ووقف أمامهم واضعاً يديه على خصره، وفوق حزامه الأسود.. فنهضوا وفروا كما تفر الأرانب أمام أسد، فنظر إليّ عبدالكريم في عزة وفخار وهو يردد مشيراً إليه: (هذا ابن جلا وطلاع الثنايا).. أما هو فقد جلس مزهواً ونحن عن يمينه وشماله كما يجلس زعيم بين أفراد حاشيته.. وشاهدنا المباراة في استمتاع، وكنا نشجع ذلك الفتى الأسمر ضد الأبيض ولا ندري لماذا، وعندما سقط الأبيض مجندلاً ملأنا المكان بالهتاف، والتصفير؟ ولما انفض سامر الحلبة، سرنا في موكب الخارجين.. وحين توسطنا الساحة الخاصة بمواقف السيارات، وإذا بأولئك الذين كانوا قد احتلوا أماكننا، يترصدون لنا، ويتربصون بنا، وينتظرون مرورنا.. وقد عرفونا بجسد صاحبنا الطويل العريض وبقميصه المخطط بالأسود والأبيض.. فلما اقتربنا منهم باغتونا، وهجموا علينا من كل ناحية، والناس تمر بنا وتنظر إلينا من بعيد!! فكان أول شيء فعلوه ان صبوا علينا الشتائم ثم أخرج كل واحد منهم سكيناً من جيب بنطاله، وأخذوا يشهرونها ويلوحون بها في وجوهنا.. والتفت بعضنا إلى بعض، ونظرنا إلى صاحبنا (أبو الفوارس) فلذنا به ونخوناه.. فإذا به صامت جامد كتمثال.. ولا شك ان دوياً كان يهز تلافيف عقله لحظتها..! فلما اقتربوا منا وأحاطوا بنا كان عبدالكريم يتشبث بنظراته في وجهه يستغيثه ويستجديه..! غير ان صاحبنا ركز على فجوة في صفهم، فوثب وثبة هائلة وراح يعدو كحمار وحش أخطأته بندقية صياد.. أما نحن فقد ضاقت علينا الحلقة، ولم نتمكن من الحركة فضلاً عن المقاومة.. ووقفنا مستسلمين وسط ضحكات خصومنا، ونكاتهم، ووخزات أيديهم في صدورنا وكذلك وخزها في جيوبنا وهي تفتش عن محافظنا حيث صفوا حسابهم معنا تصفية مالية، فلم يتركوا ورقة ولا قطعة معدنية إلاّ وسلبوها!! ثم تركونا وسط العراء ووسط الخجل، ووسط المذلة التي تركها لنا زعيمنا الفخم الضخم، ذو العضلات الجزلة المفتولة، والقلب الجبان الرعديد، والذي تركنا وولى مذعوراً تماماً كذلك الحمار الوحشي الذي اخطأته رصاصة الصياد!!