بعد أن تجد موقفاً جيداً لسيارتك، ستسير حتى تجد مدخل المقهى، وحين تلج ببطء، ستستمع إلى الصخب المعتاد، والضجيج الهادئ، فالكل يتحدث، ولكنك لن تميز أي شيء. فالأحاديث غائمة كما هي دائماً، حول مباريات كرة القدم، والسفر، وهموم العمل، ومشاكل الجامعة، وربما معوقات تربية الأبناء في هذا الزمن. أحاديث حول كل ما هو شخصي ومعتاد. بعد أن تذهب إلى طاولة المبيعات، وتطلب قهوتك المفضلة – ربما قهوة أمريكية سادة - ستجلس على طاولتك المفضلة، وتبدأ بتقليب جهازك "البلاك بيري" أو كومبيوترك المحمول لترى صفحتك على "الفيس بوك"، أو حتى تقرأ صحيفتك اليومية ورقياً - أنا من يضع السيناريو - قد تستمع إلى صخب مختلف، فتحاول أن تسترق السمع، فتلقي بأذنيك – تشبيه مجازي بالطبع - على ما يدور بالقرب، قد يكون في هذا بعض التطفل، وقد لا يكون.. التطفل حميد أحياناً على كل حال. مجموعة من الشباب – قرابة الخمسة والعشرين – يتحدثون حول التنوع والاختلاف والحوار، أحدهم يقف، والآخر يتحدث، والكل يستمع باهتمام، وفجأة يضحكون، يأتي أحدهم مقاطعاً، فيستأذن للحديث، قد يؤذن له، وقد لا يؤذن.. إلى حين. تحاول أن تركز في مضمون الأحاديث التي تدور من حولك، أحدهم يتحدث حول أهمية الحوار بين الشباب، وعن أهمية الاختلاف الثقافي وأنه يساهم في بناء المجتمع. بعد أن ترشف رشفة من قهوتك المرة – أمريكية سادة كما أسلفنا – تستمع إلى من يقترح وجود ضوابط للحوار، لكي لا يعيق التطور والتقدم في المجتمع، يستفسر الشاب الواقف "من يضع هذه الضوابط؟" يأتي الرد سريعا: المجتمع. أخر يرفض أن تكون هناك ضوابط، ويطالب بحرية مفتوحة، ليقاطعه أحدهم قائلاً "الحرية المطلقة خرافة" ويتحدث عن البناء على القواسم المشتركة، ويستنكر أن البعض لا يعتبر "الوطن" قاسماً مشتركاً. ياسر العمرو مع بعض الحضور ستقوم من مكانك المفضل، وتطلب القليل من الماء – كعذر- لتغير طاولتك، فتجلس بالقرب من هؤلاء "غريبي الأطوار"! .. فهم لا يتحدثون حول كرة القدم!. يردد أحد هؤلاء، أننا بحاجة لتنظيم الفضاء القانوني لتنظيم حرية إبداء الرأي، فالقانون هو الضابط للمجتمعات وما يدور فيها، ليشير الآخر إلى أن المجتمع عانى من أحادية الرأي التي سيطرت عليه لعقود مضت، فيقاطع أحدهم ليؤكد أن وسائل الإعلام ساهمت في تكريس رأي واحد، وطيف واحد بأدوات إعلامية، ليأتي الحديث عن الرأي العام، والتأثيرات عليه، بين الإعلام المكتوب والإلكتروني، والبرامج الفضائية واليوتيوب، فيرتفع الصوت قليلاً، هل وسائل الإعلام تقبل الآخر أو ترفضه ؟ ماذا نعني بوسائل الإعلام؟ ما هي تأثيرات وسائل الإعلام اليوم عن المجتمع ؟ هل يمكن حد الفضاء الإعلامي الفسيح ؟ ثم يتغير مجرى الحوار، إلى نقاط ذات صلة..وأنت تستمع من مكان قريب. يتحدث أحدهم عن الكليات الشرعية، وأن بعضها أسهم في تشكيل أحادية الرأي في المجتمع وتعزيزها، بسبب تهميش التنوع الفقهي، وعدم السماح للآراء المتنوعة بالوجود داخل الكلية، ووصف أي رأي مختلف بأنه شاذ ومن ثم الارتياب من قائله. ثم يعود أحدهم بالحديث إلى أثر التربية والتنشئة الاجتماعية والمنطقة في تقبل الآخر والاختلاف معه، إسقاطاً على تجربته بين منطقتين، ثم يعرج على تأخر بعض التيارات في تقبل وسائل الإعلام واستخدامها في النقاش والحوار، والتأثر والتأثير. محاور متنوع ومتداخلة، ومثيرة للانتباه في مقهى، على جانب أحد الطرق الرئيسة.. لذا تقرر أن تغير مكان جلوسك- بعد تردد - للمرة الثانية، فتقترب، وتبتسم، فيطلب أحدهم منك على الفور الجلوس على أحد الكراسي، ويقترب الشاب الواقف منك، ليسألك عن رأيك فيما يدور!. عندها ستجد أن الشاب الواقف الذي يدير الحوار، هو الزميل المذيع والكاتب ياسر العمرو، دون كاميرات هذه المرة، أو شاشة، بل في أحد مقاهي مدينة الرياض، مساء يوم الاثنين الماضي، حيث عقد "مقهى الحوار" المنبثق عن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، لقاءه الأول، بعنوان "البناء المعرفي بين القبول والرفض". همام الجريد يتحدث مشهد مثير للانتباه، وفكرة فريدة تستحق التأمل. دون قاعات رسمية وما يرافقها من بروتوكولات، ودون تحفظات أو خوف مصادرة أي رأي، اجتمع مجموعة من الشباب، في مكان عام، لمناقشة ما يهمهم، بشفافية، دون الخوف من إساءة الفهم، أو تأويل أحاديثهم، التي جمعت الشفافية والمصداقية، بروح شابة تحفل بالنكتة أحياناً، وتستخدم النبرة الجادة في أحايين أخرى، يجمع بين من حضر الرغبة الحقيقية بأن نتغير.. ونتحاور. عرف "مقهى الحوار" نفسه بأنه: مجلس حواري يعقد في أحد الأماكن العامة، للحوار حول نقطة معينة، ويدار من قبل شخص محترف في إدارة الحوار، أو استضافة شخصية عامة وإقامة حوار معها. ويهدف المشروع إلى "إيجاد بيئة حوارية شبابية ترسخ مفهوم الحوار لدى الشباب". وزعت مجموعة من الكتيبات التي تعنى بالحوار على الحضور، ككتيب "التربية بالحوار" لعبدالكريم بكار، وكتيب "الحوار في القرآن :نماذج ومبادئ" لزكي الميلاد وكتيب "الحوار الناجح في ضوء حوارات الأنبياء والرسل" لعيسى الدريبي. شكراً لكل من حضر، وساهم في تدشين "مقهى الحوار" وأخص بالذكر الأخ همام الجريد، رئيس اللجنة الشبابية في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني.. كانت أمسية جميلة ومحفزة على التغيير.