حظيت القطاعات الصناعية في المملكة بأهمية كبيرة في استراتيجيات التنمية ، أدى إلى تصدرها المسيرة التنموية من خلال القفزة التصنيعية الهائلة التي نتج عنها إنشاء الصناعات الثقيلة والمتوسطة والخفيفة التي انتشرت في مناطق المملكة ، بفضل الجهود الحكومية والقطاع الخاص معا . وقد سعت وزارة الصناعة سابقاً إلى توحيد الجهود لتحقيق التنمية الصناعية ، من خلال تنمية قطاعات الصناعات الأساسية المختلفة ، وإنشاء المشاريع الصناعية المشتركة ،ودعم وتطوير الصناعة بشكل عام ، من منطلق أن التنمية الصناعية تمثل عنصراً محركاً وقيادياً في العملية التنموية الشاملة ، التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل ، والتخفيف من الاعتماد على القطاع النفطي . واليوم ، وللمضي قدماً في خيار التصنيع ، تبنت وزارة التجارة والصناعة مؤخرا "إستراتيجية التنمية الصناعية " التي تتلخص أهدافها في " رفع مساهمة الصناعة في إجمالي الناتج المحلي ، والوصول لمركز متميز في الخريطة الصناعية العالمي ، من خلال مضاعفة القيمة المضافة الصناعية ونسبة المصنعات ذات القاعدة التقنية ،ورفع نسبة الصادرات الصناعية ، ومضاعفة نسبة العمالة السعودية في الصناعة. وحيث إنه لا يمكن تصور العملية التنموية في القطاعات الصناعية بمعزل عن التقدم في العلوم والتقنية ، فان الأمر يتطلب الاستفادة القصوى من التقدم العلمي والتقني لتحقيق التنمية الصناعية . ولأن الفرق في مستويات البحث العلمي بين تجاربنا المحلية والدول الصناعية المتقدمة شاسع، فكان من المتعذر أن نبدأ مسيرتنا في مجال البحث العلمي من النقطة التي انطلقت منها تلك الدول ، بل أصبح لزاما علينا القفز خطى سريعة ،للحاق بركب التقدم العلمي والتقني الحديث . ولذلك ، سعت الجامعات السعودية ، ومنذ عقود ، إلى إنشاء مراكز البحوث العلمية التطبيقية رغبة في تضييق الفجوة التي تفصل بينها وبين المراكز المماثلة في العالم الصناعي المتقدم . ولا يخفى على المهتمين بالعملية التنموية بشكل عام ، وبالتنمية الصناعية على وجه الخصوص ، أهمية الدور الذي يؤديه البحث العلمي في دعم هذه التنمية وتعزيزها. ولا يخفي على ذوي الاختصاص أيضا ، أن إحدى القضايا الرئيسة الشائكة تكاد تكمن في إيجاد السبل الكفيلة بالوصول إلى " تزاوج " فاعل بين المؤسسات الاقتصادية الخاصة ، ممثلة في صناعتنا الوطنية ، ومراكز ومعاهد البحوث في جامعاتنا ، وذلك من منطلق أن " التزاوج " هو إحدى تلك السبل الهامة التي تساعد في وصولنا إلى نوع من التكامل بين البحث العلمي والتقني والتطبيق العملي ، وذلك في ضوء أن الارتباط الفعلي بين الجامعات ومؤسسات البحث فيها ، وقطاعات الانتاج المحلية، لن يتأتى ما لم نصل إلى " تزاوج " حقيقي ، وأعتقد بأن ذلك التوجه، هو أحد الأهداف "غير المباشرة" التي تصبو الاستراتيجية الصناعية الى تحقيقه ، إيمانا بأن العملية التنموية الصناعية ، مرهونة إلى حد بعيد ، بما يتوفر من قاعدة أصيلة للبحوث والعلوم التطبيقية والتقنية . الجدير بالذكر أنه يوجد في المملكة العديد من مراكز ومعاهد البحث العلمي ، يأتي من بين أهمها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ، ومعهد البحوث بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن ، ومراكز البحث العلمي في جامعة الملك عبدالله ، وجامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز ،إضافة الى مراكز بحث تم تطويرها في شركة ارامكو السعودية، والشركة السعودية للصناعات الأساسية . وقد قامت هذه المراكز والمعاهد بالكثير من الدراسات والبحوث وتقديم الاستشارات ذات العلاقة المباشرة بدعم التنمية الصناعية . وسوف نسلط الضوء هنا على ما قام به أحد أهمها ، هو معهد البحوث بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن . فقد قام المعهد بعدد كبير من الأبحاث والاستشارات التي استفاد منها القطاعان العام والخاص ، وكانت محاور الدراسات والإستشارات تتعلق بحل مشاكل محددة في وحدات الإنتاج، وتطوير عمليات الإنتاج والصيانة، والتنبؤ بالتأثيرات والمتغيرات التقنية التي تؤثر على العملية الصناعية ، وفتح مجالات استثمارية صناعية جديدة ، إضافة إلى الخدمات والاستشارات الفنية التي تساعد على التخلص من معوقات الإنتاج وتطوير العملية التصنيعية بشكل عام .فعلى سبيل المثال لا الحصر ،استفاد من بعض تلك الخبرات والاستشارات مؤسسات القطاع الخاص والعام التالية : المؤسسة العامة للكهرباء ، وشركة بكتل العربية السعودية ، وشركة مصفاة جدة ، والشركة العربية للمساحة الجوية ، والهيئة الملكية للجبيل وينبع ، وشركة ارامكو السعودية ، والشركة السعودية للصناعات الأساسية. والشركة السعودية الموحدة للكهرباء بالمنطقة الشرقية ، والقوات البحرية الملكية السعودية ، وشركة الشفاء لصناعة الحقن الطبية المحدودة ، ومصنع الجمجوم لأجهزة التوزيع الكهربائية ، والمؤسسة الوطنية للقوى الكهربائية ، ومجموعة كانو ، وشركة المحولات السعودية ، وشركة عبداللطيف جميل ، وشركة العدوان للصناعات الكيمائية ، والقوات الجوية الملكية السعودية ، والشركة الوطنية لاستخلاص المعادن ، والشركة السعودية للاسماك ، وشركة المشاريع السعودية للمياه ، ووكالة الوقاية من الاشعاع ، ومصنع اليمامة للطوب الأحمر ، وشركة الجبيل للأسمدة ، ومصنع الزامل للبلاستيك ، ومنجم مهد الذهب ، وشركة المشرق للمقاولات ، ومستشفى المانع العام ، وشركة تصنيع الجبس ، وشركة المها للتجارة والمقاولات ، والمؤسسة العامة لجسر الملك فهد ، وشركة شلمبيرجير للشرق الأوسط ، وشركة المحولات السعودية . ويتبين من هذه الأمثلة أن هناك جهودا قائمة للاستفادة من مراكز ومعاهد البحث العلمي في المملكة في إعداد مشاريع الأبحاث والدراسات وتقديم الاستشارات التي تخدم القطاعات الصناعية .إلا أن العملية التي لا زالت شائكة هي "الكيفية التي يتم عن طريقها "التزاوج " بين المؤسسات العلمية والقطاعات الصناعية لتحقيق الاستفادة القصوى من بعضها البعض " . وأرى أن لكل من وزارة التجارة والصناعة ومجلس التعليم العالي والهيئة العامة للاستثمار من جهة ، والغرف التجارية الصناعية من جهة أخرى، دورا هاما في خلق ذلك " التزاوج "، وأدعو إحدى الغرف التجارية أو الجامعات السعودية إلى تبني ندوة يكون موضوعها " التزاوج بين البحث العلمي والتنمية الصناعية " ليتدارس من خلالها ، على سبيل المثال لا الحصر،محاور مثل : •التنسيق بين دور البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات الاقتصادية الخاصة لتحقيق التزاوج المنشود بين البحث العلمي والتطبيق العملي . •الدعم الحكومي لقطاع البحث العلمي والتقني في المؤسسات الصناعية الخاصة. •زيادة الوعي العلمي والتقني لدى المهتمين بالقطاعات الصناعية المختلفة. •إقامة مراكز أبحاث علمية تابعة للمصانع والمجموعات الصناعية الكبرى شبيه بما قامت به أرامكو السعودية والشركة السعودية للصناعات الأساسية. •تخصيص نسبة من الدخل الإجمالي للمجموعات الصناعية لغرض إجراء الأبحاث الصناعية المتعلقة بتطوير الصناعات وحل الاشكالات المتعلقة بها. ونتوقع أن يسفر عن نتائج الندوة المقترحة تعزيز الاتصال المباشر بين رجال الأعمال وأصحاب المصانع والمؤسسات الاقتصادية ومراكز البحث العلمي لقصد " المزاوجة" بين نتائج البحوث العلمية النظرية والتجارب العملية، أملا في الارتفاع بمستوى البحوث والتجارب العلمية النظرية ومستويات الانتاج وادخال التحسينات الحديثة عليها من جهة وتمكين الباحثين و طلاب المعاهد والمراكز العلمية من التمرس بالواقع من جهة أخرى. كما نتوقع أن تؤدي هذه "المزاوجة" في نهاية المطاف إلى النهوض بالمؤسسات الصناعية وجعلها مؤسسات قادرة على منافسة البلدان المتقدمة ،التي اعتمدت ومنذ زمن بعيد على اسلوب" المزاوجة" هذا ، وأصبحت تمول الأبحاث العلمية لتطوير صناعاتها والتخفيض من تكاليف انتاجها وجعلها تنافس الأسواق في العالم . لقد أصبحت التنمية الاقتصادية والإجتماعية بشكل عام،والتنمية والصناعية بشكل خاص، هي القضية الأساس في وقتنا الحاضر. أليست الصناعة المحور الرئيس الذي سيجعل المملكة قادرة على احتلال موقع متميز في الاقتصاد الدولي ؟