. .. الرقابة ليست عمياء فقط ، بل وحالة نرجسية تتضمن كافة الحجج الغير منطقية .. وهي تبرز بأسوأ أشكالها حين يؤمن صاحب القرار أنه المرجع الأكيد أو الوحيد في الوصاية على عقول الناس وما يجب أن يصل أو يُمنع عنهم .. وتزداد الطينة بلة حين تسند لمسؤول تقل حصيلته العلمية والعملية عن المبدع أو المتلقي (ومع هذا يرى حاجة الأول إلى تقويم والثاني إلى وصاية) .. أما أبسط تعريف للرقابة فهي أنها حالة نسبية عرضة للتغيرات الاجتماعية والتأويلات الثقافية واتهامات الخروج على "النهج القويم" ، والاتهام الأخير تحول الى إسطوانة مشروخة نسمعها بعد كل معرض للكتاب !! وأنا شخصيا عانيت من مشكلة تبدل المواقف والتغيير المستمر للمشرف على الصفحة أو المسؤول عن متابعة مقالاتي (وبالتالي الدخول في نمط جديد ومختلف من الفكر الرقابي) .. فهناك -مثلا -"مشرف" تزيد لديه نسبة الحساسية السياسية ، وآخر الدينية ، والثالث القومية ، والرابع الإملائية والنحوية ؛ ولكن الجميع يتفقون في مهارة اقتناص ما يؤيد وجهة نظرهم أو فكرتهم المسبقة عن الكاتب! وحين أراجع سيرتي المهنية مع مقص الرقيب تقفز إلى رأسي قصص كثيرة تجبرني على الاختيار بين الابتسام / والضحك من شر البلية .. إذ من الممكن أن ترفض كتابات الصحفي أو مقالات الكاتب بسبب احتمال بعييييد أو استثناااااائي لم يخطر على غير ذهن الرقيب .. ومن المواقف التي أذكرها: رفض مقال لي بعنوان "كيف كرشكم دام عزكم" تحدثت فيه عن أضرار الكرش لدى الرجال وكيف كانت في أيام الدولة العثمانية دليل على الوجاهة والثراء لدرجة كان الناس يتملقون السلاطين والحكام بتحيتهم "كيف كرشكم دام عزكم" . غير أن المقال رفض من قبل المشرف على الصفحة ( لماذا ؟) لأن معظم الزعماء العرب أمدهم الله بالصحة وطول البقاء يملكون كروشا، وبالتالي من غير اللائق تنبيه القراء لتحيتهم بهذه الطريقة !!! ... أيضا سبق وكتبت مقالا بعنوان "السرقات الدولية الكبرى" قلت فيه إن الملكة إليزابيث الأولى تعاونت مع القرصان الشهير ديريك لاعتراض السفن الأسبانية المحملة بالذهب القادم من أمريكا الجنوبية . ولكن المقال منع ( ليش يازول؟) لأن سيادته لم يميز بين ملكة بريطانيا الحالية "إليزابيث الثانية" والملكة "إليزابيث الأولى" التي توفت عام 1603 (وحتى حين أخبرته بهذه الحقيقة كابر وقال : يا أخي ومين يضمن إن المواطن السعودي يفرق بين الاثنين) !! ... أما أول مقال رفض لي على الإطلاق فكان في جريدة المدينة (بعنوان كيف تصنع قنبلة هيدروجينية، أرفقت معه رسما توضيحيا يحدد مكونات القنبلة الداخلية). وفي حين توقعت رسالة تقدير من رئيس التحرير فوجئت برفض المقال خشية وقوعه في يد الإرهابيين .. وحين سمعت هذا التبرير كدت (أنفجر) من الضحك، لأن المبدأ الفيزيائي نفسه كان معروفا وشائعا ولا يخفى على أي معلم فيزياء / ناهيك عن أن الدنيا كانت وقتها بخير ولم يكن هناك إرهابيون ولا انتحاريون ولا أي من المنظمات الإرهابية المعروفة حاليا ! ... وبطبيعة الحال ؛ لا تحتاجون لمن يخبركم بأن الأمثلة أعلاه تتعلق فقط بفترة عملي في الصحيفة السابقة !!