استخدم والدي - رحمه الله - كل وسائله للبحث لي عن بسكليت جديد، وقد كان عندي دراجة على مقدار جسمي من تلك التي يسمونها (أربعة وعشرين) وهو مقاسها، حيث تأتي متوسطة الحجم وتناسب صبياً بعمر الحادية عشرة من العمر، ولكن جسمي كبر مع الزمن والبسكليت تعرض للإنهاك، ولذا فكر والدي بشراء دراجة جديدة لي بمقاس (ست وعشرين) وتعذر الحصول عليها في سوق عنيزة، ولذا أوصى والدي صديقاً له من أهل بريدة كي يبحث لي عن واحدة هناك، ومرت أسابيع دون خبر عن البسكليت، ولما جاء الخبر كان بالنفي إذ لم يجد صاحبنا إلا دراجات قديمة مستعملة، وهذه لم تكن في وارد الاعتبار، ولذا كان لابد من الانتظار إلى أن يتيسر رجل من الرياض ليأتيني بالدراجة الموعودة، وهذا ما صار بعد تكريم صديقنا البريداوي - رحمه الله - وتكفل لوالدي بإحضار دراجة بتلك الصفات، وكم كانت فرحتي حينما جاء رجل إلى والدي في الدكان في العصرية وقال له خل عبدالله يذهب إلى موقف السيارات القادمة من الرياض ليأخذ بسكليته التي أحضرها سليمان المرزوق معه محققاً بذلك وصية أبي، لقد غمرتني الفرحة إلى درجة أنني لم استطع ركوب الدراجة فجسمي يرتعش طرباً ونشوة ثم إنها تبدت لي وكأنها أكبر من سني حيث كانت عالية الصهوة وضخمة المقاس وكنت قد تعودت على الحجم الصغير أقفز عليها كالعصفور وأنط بها من فوق الصخور والطلعات ولا أبالي، أما هذه فهي جديدة وبراقة وكبيرة أيضاً وأنا بإزائها مجرد عصفور فعلاً، ولذا قطعت بها الطريق من الموقف حتى البيت وأنا أقودها سيراً على الأقدام، ولم أقلق لتعليقات كل من مر عليّ مستنكراً مشيي ويدي على البسكليت ومردفاً أنني لن أقوى عليها وكانت الاقتراحات تأتي بأن أبيعها وجاءتني بعض العروض المغرية، ولكن أين لي أن استجيب بعد طول حلم وسخاء الأمنيات والتصورات عن دراجة تأتي من الرياض كأجمل هدية يهديها لي والدي، ولم يكن بد من الاستعانة بعمي عبدالرحمن - رحمه الله - لكي يتولى تدريبي على ركوب الدراجة الكبيرة والمناورة فيه وكان ماهراً في هذه الأمور، وله خبرة مع الدراجات لا تخلو من طرافة وكان عمي من أطرف الناس ونكته تشيع بين أهل عنيزة، ومنها ما يتعلق بالبسكليتات التي كانوا يطلقون عليها مسمى (حصان إبليس) وكان هناك شيء من الكراهية لها، ولذا وصفوها بهذه الصفة، وفي مرة كان عمي راكباً على صحوة دراجته وإذا به يسمع رجلاً يصرخ به ناهراً ومستنكراً: يا الغذامي... تركب حصان إبليس...؟! فرد عليه مباشرة: لا يا عم... أبشرك لقد اشتريتها منه، وصارت الآن حصان الغذامي، ولقد شاع خبر هذه النكتة حتى بلغت للشيخ السعدي - رحمه الله - وأرسل من عنده رسولاً يقول لعمي مبروك عليك البسكليت. لقد أخذ عمي يدربني على حصان الغذامي الذي لم يعد حصاناً لإبليس، ولم يفت وقت حتى صرت فارساً مغواراً على دراجتي الجديدة وتغلبت على الحجم الكبير بعد أن تعلمت كيف أمدد قدمي وأجر ظهري باتجاه المقود ومع تكرار العملية قهرت الصعوبة وامتطيت بسكليتي في حفلة فرح يومية أمام زملائي في المعهد وفي الحارة. مرت سنة أو أكثر وأنا أعيش هذه الفرحة حتى جاء يوم طرق فيه باب بيتنا صديقي الأثير محمد السليم - رحمه الله - وقال لي إن الشاعر صالح الأحمد العثيمين تعين ملحقاً ثقافياً خارج المملكة وإنه باع مكتبته بما تحمل من كنوز الكتب واشترتها منه مكتبة اليحيا والكتب كلها معروضة في تلك المكتبة، وهنا انطلقت مع محمد، حيث رأينا كل ما يثير وما يغري من كتب التراث والدواوين والموسوعات، ولكن أين الفلوس..؟؟ هنا لم أجد بدا من التضحية ببسكليتي الأثير على نفسي وعرضته للبيع وهو الأمر الذي أسال لعاب كل الزملاء الذين كانوا يغبطونني على ذلك البسكليت وتمت البيعة مع أول عرض، حيث بعته بمائة وثمانين ريالاً بناقص عشرين ريالاً من بعد استعماله أكثر من عام. ضحيت بالدراجة من أجل الكتب، وحينما سألني والدي كيف سأذهب للمعهد كل صباح علمت أن السؤال كان يضمر ملامة خفية لأنني كنت أتعلل بأن الطريق للمعهد طويل وأن هذا يسبب لي التأخر عن الدروس، وكنت أقول هذا للضغط للحصول على دراجة كبيرة تذلل لي الطريق وتعينني على الدراسة، وقد حصلت على الدراجة فعلاً، ولكنني الآن أعرضها للبيع، ولم يكن سؤال والدي إلا من باب إثارة النكتة وتذكيري بدعاوي السابقة وانفضاحها الآن. بعت البسكليت واستعضت بقيمته كتباً قفزت بمكتبتي من بضعة كتب إلى عشرات الكتب والمدونات والمجلدات، وما زالت هذه الكتب عندي أعود إليها حتى اليوم، مقلباً في صفحاتها وأشم فيها رائحة الطفولة وأزقة المسهرية - حارتنا في عنيزة - وأرى ختم مكتبة اليحيا، ولكن اسم الشاعر صالح العثيمين ليس عليها، ويبدو أنه لم يكن معتاداً على كتابة اسمه على الكتاب، أما أنا فقد سجلت اسمي على كل كتاب ومعه تاريخ الاقتناء، وما نسيت أبداً أنني في ذلك التاريخ قد شرعت في الذهاب إلى المعهد مشياً على الأقدام، ولم أفاتح والدي قط من وقتها عن الدراجات ولا عن مشوار المعهد ولا عن طول الطريق، لقد تحولت الدراجة من آلة للسير إلى ورقات من الكتب والتراث وتركتني في موعد مفتوح مع أجمل الأحلام، بدءاً من حلم البسكليت القادم من العاصمة إلى حلم الشاعر المهاجر الذي ترك لنا كتبه واشتريناها بمبالغ تناسب قدرات جيوبنا، والمائة والثمانون ريالاً أمدتني بعشرات من المجلدات والكتب التي تراوحت أسعارها ما بين خمسة ريالات للكتب المفردة وعشرين ريالاً لذوات الأجزاء المكررة والمجلدة. كانت تلك هي آخر دراجة أمتلكها من بعد تجربة ثلاث دراجات متعاقبة ختمتها هذه الدراجة التي لو علمت عن مكانها اليوم - إن كانت على قيد الوجود - لدفعت فيها الآلاف لكي أكرم مثواها وأكتب عليها كلمات الامتنان والمحبة لدراجة منحتني مكتبة ما زالت تؤنس بيتي وذاكرتي.