الثقافة والفكر قوام الأمم وخط دفاعها الأول ضد جميع أنواع الغزو الثقافي والفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني والعسكري وقبل ذلك وبعده ضد محاولة زعزعة الوحدة الوطنية وتفريق الكلمة وتمييع الانتماء. وهذا الاختراق إن وجد فإنه يؤدي إلى الانخراط في مستنقعات الإرهاب والمخدرات والجريمة بجميع أنواعها ومفرداتها، لذلك فإن رفع المستوى الثقافي والفكري والعناية بهما يعتبر من أهم مقومات الوعي المبني على الإدراك وزرع الثقة بالنفس حتى لا يصبح الإنسان إمعة يقع ضحية لكل ناعق.. ذلك أن من يدرك ويعي ما يدور حوله من تفاعلات واحداث وتحولات وحراك يستطيع التفريق بين الغث والسمين لأن لديه مستوى مرتفعا من الوعي يقوده إلى السلوك السليم. وهذا ما يجعل استدراجه أو خداعه أو محاولة اقناعه واستمالته لممارسات غير مسؤولة صعباً لأن مثل هذا الشخص يدرك قبل غيره ، بسبب وعيه وثقافته وتفكيره السليم، انها تصب في خانة الخروج على القانون وشق الصف والانخراط في تبعية الأعداء وتحقيق مبتغاهم. إن سطحية الثقافة والتفكير هي التي تؤدي إلى نشوء الممارسات الخاطئة التي نشاهد ونسمع وتقرأ عن آثارها السلبية المتمثلة في التطرف والإرهاب ونبذ الآخر والتكفير والتفجير ناهيك عن الاتجار بالمخدرات والتي تستهدف قليلي الثقافة والتفكير من شباب وشابات هذا الوطن وما كميات المخدرات التي يتم ضبطها بين الحين والآخر إلا خير دليل على ذلك الاستهداف على الرغم من أن المضبوط منها لا يشكل إلا نسبة قليلة مما يتم دخوله ووصوله إلى المستهلك. هذا بالاضافة إلى ارتفاع مستوى الجريمة كماً ونوعاً والتي من أهم مقوماتها التسطيح الثقافي والفكري؛ لذلك نجد أن دول العالم الثالث بصورة عامة والدول العربية بصورة خاصة تعاني من تلك الممارسات السلبية وتخسر بسببها مليارات الدولارات. إن التسطيح الثقافي والفكري من أهم دعائم التخلف ولعل الإعلام بجميع وسائله والتعليم بجميع مراحله يعتبران المسؤولين عن عزوف الشباب عن القراءة ومقوماتها ومصادرها، إن أساس الثقافة فضول ونهم وحب للمعرفة إذا وجد من يزرعها ويرعاها وينميها، فالإعلام لا زال يهتم بالقشور والمظاهر الجانبية على حساب الجوهر. كما أن أسلوب التعليم المتبع جعل الدراسة محدودة الفائدة وذلك بسبب ضعف النشاط اللاصفي وقلة الاهتمام بالبحوث والاخبرة إذا وجدت فإنها تباع جاهزة لدى مراكز التصوير وغيرها فأصبحت الدراسة تشبه الوجبات السريعة من حيث قلة الفائدة في مجال زرع الثقافة الرصينة والتفكير السليم. إن عملية التسطيح يمكن مشاهدتها بكل وضوح في كثير من الحوارات الفضائية وفيما يكتبه بعض الكتّاب وفيما يدلي به بعض المحللين السياسيين والاقتصاديين والعسكريين من آراء مبنية على استنتاجات آنية غير موثقة فيها كثير من التشويش وقليل من العمق، كما أن نوعية المسابقات وحجم الجوائز ونوعية المحتوى فيها كثير من التسطيح من الخليج إلى المحيط. نعم إن العالم العربي يعيش أزمة ثقافية وفكرية حقيقية تتضح ملامحها أكثر ما يمكن بين أوساط الشباب والشابات وذلك على الرغم من أن العالم اليوم يعيش عصر الانفجار المعلوماتي وبالتالي كان من المتوقع أن يساعد ذلك على التقدم وزيادة الثقافة واتساع دائرة التفكير وغزارة المعلومات بسبب تنوع المصادر وسهولة الحصول على المعلومات والتي كان من المؤمل منها أن تخلق ثقافة موسوعية. لكن الحقيقة المرة والظاهرة للعيان هي تفشي سطحية الثقافة وضحالة التفكير لدى الغالبية العظمى من الشباب والشابات. إن الشباب لا يرفضون الثقافة في حد ذاتها ولكنهم يفتقرون إلى تقديم المعارف المتنوعة والمناسبة بأسلوب حديث ، ويفتقرون إلى التوجيه السليم ويفتقرون إلى وجود بدائل من الكتاب التقليدي لإيصال مضمونه بطريقة حديثة أسرع وأسهل، ويفتقرون إلى أن ترقى الفضائيات إلى مستوى التفكير السليم. وتحمل مسؤولية تعميق الثقافة بدلاً من تسطيحها عن طريق بث أفلام رديئة وتحليلات مقتضبة ونقل أخبار فيها كثير من الإثارة وقليل من الموضوعية كما أن إساءة استخدام الأجهزة الحديثة وعدم الاستفادة منها في المفيد من أكبر وسائل التسطيح الثقافي؛ فالتسلية مطلوبة ولكن يجب أن لا تأخذ الوقت كله فالوقت كالسيف إن لم يقطعه الشباب في المفيد سوف يقطع أعمارهم بغير المفيد. إن فترات العمر المبكرة هي أنسب الأوقات لزرع أسس وتوجهات النشء الجديد إلا انه مع الأسف يتم استغلال تلك الفترة في مشاهدة أفلام كرتون على مدار أربع وعشرين ساعة مما سوف ينتج عنه شباب مستقبليّ لا تتعدى أن تكون ثقافته كرتونية. ليس هذا فحسب بل ان التركيز على الفن والأغاني والموضة والجمال والرياضة على حساب الأمور الثقافية والفكرية الأخرى يخلق جيلا ذا ثقافة انتقائية وسطحية، نعم نحن لا نعترض على الفن ولا على الأغاني ولا على الرياضة ولا على غيرها من الفنون ولكن الاعتراض ينصب على سيادتها وتهميش مصادر الثقافة الأخرى، فالتوازن مطلوب لأن لكل منها طلابه ومريديه. إن غياب ثقافة العمل وثقافة السلوك وثقافة الحوار وثقافة الانفتاح وثقافة الانتماء وثقافة التعاون وثقافة التطوع من علامات التسطيح الثقافي والفكري لدى أي شعب من الشعوب. نعم لقد استغنى الغزو الثقافي الخارجي عن وسائله القديمة واستعاض عنها بوسائل محلية تخدمه في كل دولة من الدول.. والدليل على ذلك أن الوسائل الثقافية المختلفة أصبحت تغزو بطرق مباشرة أو غير مباشرة ، وتبشر بعصر العولمة وما يجلبه من مكاسب باتجاه واحد يصدقه سطحيّ الثقافة الذي صنع من خلاله التهميش وبث روح الفرقة والعمل على إحياء الطائفية والاقليمية والعصبية وذلك من خلال التحقيقات والتمثيليات والتحاليل وحتى رصد الجوائز، ليس هذا فحسب بل ان دور النشر لحقت بالفضائيات وأصبحت تهتم بالكتب المحدودة الفائدة ككتب الإثارة الجنسية والدينية والسياسية وتسعى إلى تكريس ونشر هذا النوع من الكتب والقصص والروايات والتي ربما يساعد منع بعض منها على انتشارها وزيادة شعبيتها على قاعدة كل ممنوع مرغوب. لقد أصبح الربح هو الهدف وفي سبيل ذلك تبرر الوسيلة. والأمر الذي يغيض أكثر أن ينجرّ بعض ممن يحسبون على الثقافة رجالا ونساء خلف ذلك التوجه من أجل الفوز ولو بجزء يسير من الكعكة، والأدهي والأمرّ ان تخرج كتب وروايات ممجوجة وتحظى بتغطية إعلامية مميزة. وذلك كله على حساب كتب علمية وفكرية لا تعبث بالعواطف وتسمو بالثقافة والفكر وتزيد الوعي وتصقل التجربة وتهذب الأخلاق. نعم ان الثقافة والفكر السليم يولدان المنهجية الواضحة في العمل كما انهما يساعدان على تطوير الأداء دون نسف المنهجيات الأصيلة من الجذور نتيجة سطحية الثقافة وقلة التجربة، ولعل تحييد اللغة العربية واتهامها بعدم القدرة على مواكبة متغيرات العصر وإحلال اللغة الأجنبية مكانها في كثير من المناهج والأعمال على امتداد العالم العربي دليل على ضحالة ثقافة وفكر المنادين بها؛ فاليابانيون والألمان والصينيون شدوا أزر لغاتهم بحيث استوعبت الثورة المعلوماتية والتقنية على الرغم من أنها ٍأقل فائدة من اللغة العربية التي تحتاج إلى رجال أكفاء يشدون من أزرها: انا البحر في احشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي أتوا أهلهم بالمعجزات تفنناً فيا ليتكم تأتون بالكلمات وعلى العموم فإن أهم مخرجات التسطيح الثقافي تكمن فيما يلي: * غياب التفكير الجماعي المتكامل للاحداث والقضايا التي يمر بها العالم بصورة عامة والعرب والمسلمون بصورة خاصة وكل دولة من دوله على وجه الخصوص وبالطبع هذا يجعل ردود الفعل متباينة مما ينعكس سلباً على المصالح والمبادئ. وهذه تعتبر ثغرة استفاد منها الآخرون لكي يمرروا أجندتهم عن طريق تبادل الأدوار. * التسطيح الثقافي في الدول النامية أدى في الغالب إلى استمرار النماذج التقليدية في الهيمنة على ادارة عجلة الثقافة والفكر واستمرار التحفظ تجاه التجديد وتجاه المبدعين والمجددين والعمل على تقليص دورهم لضمان استمرار هيمنتهم وهذا بالطبع يفضي إلى الركود ويعيق الإبداع والإصلاح والتطوير. * سطحية الثقافة والتفكير تجعل صاحبهما صيدا ثمينا للذين يصطادون في الماء العكر الذي أصبح سائداً في منطقة الشرق الأوسط أكثر من غيرها والذي بدوره جعل تفشي الشائعة وسهولة الاستقطاب والتجنيد في منحدرات الإرهاب والجريمة والتطرف في متناول المتآمرين. * سطحية الثقافة والتفكير هي السبب في كثير من التخبط وغياب المنهجية وعدم المصداقية وتفشي ظاهرة التغيير الفجائي دون قناعات وأسس ترتكز عليها وهذا ما ساد العالم العربي خلال فترة الانقلابات العسكرية المتكررة التي دفعت به إلى خلق عقود جديدة والذي استثمر في العاطفة والإعلام أكثر مما استثمر في العقل والعمل.. * سطحية الثقافة والتفكير هي السبب وراء الدعوات المتكررة للتخلي عن اللغة العربية وتهميشها بدلاً من العمل على تطويرها وجعلها تتواكب وتتواءم وتنافس في مجال الاستيعاب والاشتقاق والابتكار لمفردات الثورة التقنية والالكترونية والمعلوماتية التي نعيش مخاض ثورتها وشموليتها لكافة مظاهر ومفردات الحياة. إن تطوير قدرة اللغة العربية على الوفاء بمتطلبات العصر من أهم عوامل انتشارها وتألقها وضمان حيويتها كلغة للعلم والأدب في نفس الوقت كما أن ذلك يجب ألا يكون دعوة للعزلة والانغلاق، فالشعوب الحية تستطيع المواءمة بين تلك المتطلبات. * سطحية الثقافة والتفكير هي المسؤولة عن الانبهار بالآخر والاحساس بالدونية وبالتالي الركض خلف السراب من خلال التقليد الأعمى، والتقاعس عن العمل وفق منهجية ثابتة قادرة على الوفاء بالمستحق الآني ومتطورة للوفاء بالمستحق المستقبلي. * سطحية الثقافة والتفكير هي المسؤولة عن انقسام العرب وعدم ارتفاعهم إلى مستوى المسؤولية الملقاة على عواتقهم لأن استمرار عملية التسطيح وبالتالي سطحية الثقافة والتفكير هي التي تكبر الصغائر وتخوف من الإصلاح والتطور وتمنع التعاون والتكامل. ناهيك عن انها تؤطر للتقوقع والانغلاق واجترار الماضي وعدم اكتساب الخبرة وتناسخ الأجيال المتتابعة. وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه والله المستعان..