عندما نشرت صحيفة "الرياض" سلسلةً من الندوات والمقالات حول التعليم والتطوير كان الهمَ هماً وحيدا وهو لأجل تطوير الذهنية التعليمية التي تعتبر أساس أي أرض تريد البذر والماء لكي تنمو شجيراتها، إلا أننا دوماً نسمع عبارات خارجة تأتي من قريبٍِ وبعيد، وأمثلتها (العرب متخلفون، جبناء ، رجعيّون، وأكثر من ذلك)؟! فمن منا لم يسمع هذه الكلمات، ويألف سمفونيتها المستمرة في الهز على مطرقة وسندان أذاننا، ومن منا لم تستعذب أذناه صرير أحرفها المزعج، والذي جذر في عقولِ الكثير صورا مشوهة عن العروبة بأكملها. وأصبحت كأداة تأثيرٍ على سلوك الكثير في التعامل مع الحياة، ودليلُ ذلك كثرة من يردد تلك الكلمات التي تقبع بين الأقوس أعلاه دون أن يعي أنه شامتٌ لنفسه وشاتمٌ ببني عرقه. لن ألقي الملامة عليهم كاملةً، لإن ما أبدوه من منهجٍ كان رأيٌ شيمته النقل دون الوعي بإنه هادماً للفكر ، فكم واحداً منا سَمِعَ و شاهد بعض مدرسيه وأساتذته وهم يكسرون روتين محاضراتهم بالتندر على العرب، أو تصويرهم كمثالٍ على أي إنتكاسةٍ أو فشل، أو حشرهم في قالب دعابةٍ سخيف لتلطيف فضاء القاعة. هذه الشحنات السلبيةالتي يتلقاها الطالب لم تظل راكدةً في أروقة التعليم فقط، بل نمت معه وأخذ يتلقاها من مصادر أخرى، كالصحف ووسائل الإعلام ودائرة المثقفين والكُتاب الذين أستكملوا قهقة الضحك على عروبتنا. فمثلا نجد بعض المقالات قد جعلت من سطورها مهداً يحتضن الكثير من كلمات السخرية على ما هو عربي، وكأن العروبة أصبحت جداراً يرسم عليه كشاكيلَ اللغط واللغو، بل جعلونا في مقارنات مخجلة وتشبيهات تثير إشمئزاز العقلاء. صنعوا من أقلامهم بيئة سلبية يعيشها كل فرد مهما كان عمره، لتبدأ الهوية لدى الكثير بالذوبان، كما يذوب الجليد تحت أشعة الشمس، فتكون المعاناةَ معاناةَ مجتمعٍ بأكمله بسبب كم التراكمات الثقافية التي يتلقاها ويبلورها بداخله لتكون كالطبقات الصلبة من ركام السلبية الذي خلط ما بين الاحباط واليأس، لينجبرِ الكثير على التكيف معها لحد الإستسلام. هذه الثقافة التي يعيشها الطفل في مدرسته ومن ثم تنمو معه في مجتمعه حتى يغدو شاباً، ربت في ذواتهم صراعات نفسية، تحتاج لعلاجٍ فعلي وإلى إعادة تأهيلٍ فكري. في إطار ذلك أتذكر في أحد الأيام أنني أستقبلت عبر بريدي الإليكتروني قصيدة ًمهداةً من عربي، بدأها بإهداءٍ لنفسه ولجميع العرب بسبب ما وصلوا إليه من ذلٍ ومهانة، الكارثة أن القصيدةَ تتكلم عن خروفٍ يوصي إبنه بالخضوع والمسالمة حتى لو شج رأسه أو قطعت شرايين رقبته، وهذا للأسف دليلاً على أن ذلك العربي ضحية واقعٍ زرع بداخله روحاً ضعيفة تعيش تحت سحابةً من التخاذل والقناعة باليأس، ليكون تحت وطأة الإحباطات النفسية والفكرية التي تلقفها من مجتمعه. هذا الصنف وتعدداه كثير ينتقدَ العرب عندما يواجه تصرفاً أحمقاً، فعضلة لسانه تبادر بإنزال الشتائم على جنس العروبة، وهو ليس بارعاً إلا في التفكه والمناظرة التي تنتهي بإنتهاء مجلسه. للأسف أنني أحزن عندما اقرأ كلمات النقد اللاذعة وسطور الإستهزاء المخزية التي تطرز بعض المقالات والمواضيع،كي تُحسب لكاتبها بإنه مفكرٌ أو جريء وهي ليست سوى هدماً لهممِ القراء وإحجاماً لعقولهم. لماذا لا يستبدلون ذلك البث السلبي من خلال تلك المقالات ببثٍ هذا مضامين محفزةً على النجاح و العمل، تزرع في نفوس القراء والمجتمع الثقة والحافزية،لماذا لا يدعون وسائل الإعلام الأخرى لإقامة برامج تدعوا للنهضة وتمهد طرقها لصناعة الإبداع. على تلك الشاكلة سلكت المسلسلات والروايات والشعر أيضاً مسلك تكميم الهمم وتثبيط إنزيماتها بسبب ثقافة السلب العارمة التي غزت حواس الناس. فمثلاً لماذا لا تكون المسلسلات ذات هدف ٍومغزىٍ قيمي، تعزز الإنتماء وهوية الذات وإحساس الثقة، تستقطب أهل فكرٍ ناجحين لا أهل تهريج وإستهزاء، يستطيعون صياغة أساليب جديدة ومؤثرة تستهدف تقويم التفكير والسلوك، بدلاً عن تلك المسلسلات التي لا تبرز سوى الشفاه المتورمة والاجساد االكاسية والعلاقات المحرمة. أين الروايات التي يجب أن تزدهر في هذا العصر، بدلا من أن تتطاحن في الابتذال والإمتهان بين فصولها، دون أن تحمل فكراً يكون ذا نتيجةً إيحابية، أو تجربةً تستخلص منها فائدة، أو قصةً تبدع في بذر حكمة، وتكون كبدائل عن تلك الروايات التي بدت تغص بها المكتبات ككم من الورق والدعاية، تروج على أنها جزئية وهي ليست سوى ورق لا تستحق قيمة الحبر الذي كتبت به. أين الشعر الذي صيرت منه القنوات سوقاً مربحاً تجني من تدوير قصائده الملايين، وأصبح طموح الكثير وأحد سلالم الشهرة والوصول للغايات! تخيلوا تلك الوسائل الإتصالية التي إستغلت بدافع الفردية والمادة، وأصبحت كوابيس تؤرق الكثير، بسبب الخوف من تبعاته التي تدمر لبنات العقل الذي يبنيه العلم والتجربة والدعم، وتقضي عليه تلك المؤثرات الهادمة في فترة قصيرة. أن تلك المعايشات تحتاج لوقفة صارمة لإعادة ترتيب أوراقها التي سببت فوضى وشذوذا، ويجب إعادة الروح التي تتوقد للنجاح ومعرفة الطريق الصحيح وتنميتها لكي تكون ولو بذرة بسيطة في أرض النقاء ، التي تُزرع بالأمل والطموح والإيمان، وأن يعوا أن للعقل والنفس بنية تحتاج للغذاء، تحتاج لإن يكون لها رؤية وهدف، وما أبلغ من توجيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: لا تصغرن همتكم فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم، وكما قال أحد البلغاء: "علو الهمم بذر النعم".