منذ أكثر من ثلاث سنوات وأنا أشارك بانتظام - دون انقطاع - بمقالة أسبوعية في صحيفتي (صحيفة الرياض)، وأشعر بسعادة حقيقية حين تحفزني هذه الكتابة إلى التفكير والقراءة والاطلاع - لأكون مع تواصل دائم بالجديد من الفكر، والحاضر من القضايا، وما يعنّ لنا مع تغيرات العصر من أمور. فليس مستحسناً أن يغفل المرء عما حوله من قضايا - أو يتغاضى عما عليه من واجبات تجاه الاهتمام بأمور ذات علاقة بدينه، ووطنه، وأهله، ومجتمعه. ** ** ** ومنذ بدء حياتي الدراسية وأنا تواق للقراءة، شغوف بالإطلالة على الدنيا، والتعرف على الحياة من خلال لقاءاتي مع الناس في الكتابة.. لكن ظروف العمل وواجبات الوظائف التي شغلتها جعلتني أقصر مشاركتي في المطبوعات الرسمية لها، ومنها مجلة رسالة الخليج، حين كنت مشرفاً على إصدارها إبان إدارتي لمكتب التربية العربي لدول الخليج، ثم في مجلة المعرفة.. إذ كنت كاتب افتتاحيتها شهرياً خلال عملي في وزارة التربية والتعليم. ** ** ** وكانت ولا تزال لي خواطر كثيرة متنوعة التوجهات تهجس في داخلي، وتحرك نفسي؛ حتى إن يدي دون قصد كثيراً ما تمتد وتسجل بعضاً منها؛ لتهدأ قليلاً ثورية هذه الخواطر، ويخف قليلاً تزاحم هذه الأفكار، وكنت أوجه بعضاً منها عبر رسائلي إلى إخواني، وأحبابي، وأصدقائي. ** ** ** وكم أنا سعيد الآن بالتواصل مع أهلي، وإخواني، وأخواتي، وزملائي من القراء، والمشاركة في حياتنا الاجتماعية، والثقافية، ومناسباتنا الدينية، والوطنية، وظروف حياتنا، وإبداء الرأي فيما يدور حولنا بعد أن صار التواصل أوسع، والالتقاء بالناس أرحب؛ نظراً لشيوع انتشار الصحافة اليومية ورقياً وإلكترونياً أكثر بكثير من المجالات الدورية، وكما هو العهد بجريدة «الرياض» التي هي بين يدي الجميع كل صباح، فإنها من بين الأكثر قراء، والأوسع انتشاراً، والأوفر عطاءً فكرياً، واجتماعياً، واقتصادياً، ومما يميزها أكثر ما تختص به من الأعداد والإصدارات الخاصة الثقافية (كتاب في جريدة) و(الليموند دوبلوماتيك)، (وكتاب الرياض الشهري)، وسبق النشر الإلكتروني، والرياض الاقتصادي اليومي. ** ** ** ومن مبعث سعادتي أن من يقرأون لي.. وخاصة من عرفوني يتواصلون معلقين أحياناً على ما أكتبه إما هاتفياً، أو عبر رسائل، ويرى كل منهم ما يراه.. وهذا هو في الحقيقة المعيار لمدى الاهتمام بما أكتب، والمشاركة فيما ينشر، بجانب ما يحدث في لقاءاتي الاجتماعية التي لا تخلو من تعليق بعض الحضور على ما أكتب. وإني لأشيد شاكراً بكل من يقرأون، ويبدون آراءهم في اتصالاتهم وتعليقاتهم مدحاً، أو قدحاً.. فلكل رأيه.. ولا حرج على أحد فيما يرى، وإن كانت الغالبية من القراء والمعلقين بشتى الوسائل هم الراضين عما أكتب - والحمد لله - فإن هناك بعض من يرون آراء أريد أن أجملها، وأرد على كل واحد منها ما استطعت. ** ** ** البعض يعتب عليَّ أني لا أشارك كتابة في الأحداث السياسية، والتعليق عليها، وإبداء الرأي فيها.. وقد سبق لي أن أوضحت في عدة مقالات أن هذا يعود إلى أسباب كثيرة منها: 1- مع أهمية القضايا السياسية الدولية وتأثيرها في حياتنا.. إلا أنني أرى أن الكتابة حول هذه القضايا لن تغير شيئاً فيها، ومعظم الكتابة عنها هو تحليلات وتفسيرات قد تكون صائبة، وقد تكون غير ذلك. 2- أن معظم قراء صحفنا المحلية في أمسّ الحاجة إلى الحديث عن قضايانا الداخلية، وشؤوننا الأسرية، والاجتماعية، والثقافية، واهتمامهم بالشؤون الدولية محدود. 3- أن الكُتاب في مجال السياسة كثيرون، وما قد يكون عندي من رأي في أمر من الأمور السياسية والعلاقات الدولية فإني أكتب عنه مباشرة إلى صاحب الشأن لعله يجد فيما أراه ما هو جديد ونافع. ** ** ** وهناك بعض يجيء تعليقه الإلكتروني مختصراً محدوداً بقوله مثلاً (لماذا لم تطبق ما تنادي به الآن حين كُنتَ في موقع المسؤولية)، وأقول لهذا ومثله: أرني شيئاً أنادي به في مقالاتي الآن ولم أسع إلى تحقيقه سابقاً.. وإني دائم التمثل بقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون).. فالحمد لله أني لا أقول إلا ما حاولت عمله، ولا أنادي إلا بما يمكن تحقيقه، والعودة إلى سلسلة مقالاتي في هذه الجريدة بعنوان: (سعينا للأمر مخلصين؛ فاعترضوا جاهلين) فيها الإجابة عما يستنكره عليّ هذا القائل.. إذ إن كثيراً مما كنت أسعى لتحقيقه أعاقت تنفيذه آراء مخالفة، وتوجهات مغايرة، وأصحابها أهل نفوذ فاعل. ** ** ** كما أن بعض القراء يوجه لي سؤالاً: لماذا لا تُخصص مقالاتك بالأمور والقضايا التربوية البحتة وحدها، وقد كُنت مسؤولاً عنها بجانب تخصصك العلمي والأكاديمي فيها؟ والجواب عن هذا هو أن قضايا التربية تشتمل على كل جوانب الحياة.. الخُلقية، والثقافية، والأسرية، والاجتماعية، ولن يكون حديثي عن أحدث طرق التعليم، ووسائل التعلم، والنظريات التربوية.. فهذه أمور لها منشوراتها الخاصة.. ومن ذلك مجلة المعرفة التي تصدرها وزارة التربية والتعليم، والتي أحمد الله أني كنت وراء عودة ظهورها بعد انقطاع دام أكثر من ثلاثين عاماً، وقد تحددت رسالتها في أن تكون مرآة صادقة تبرز ما انتهت إليه البحوث والدراسات والأفكار التربوية والنظم التعليمية، محلية كانت أو عربية أو دولية، وأن تكون همزة الوصل بين القائمين على التعليم ، وبين الطلاب وذويهم؛ فعلى من يطلب المزيد من المعرفة التفصيلية عن شؤون التعليم ومناهجه، ووسائله، وتقنياته، وقضاياه كافة أن يعود إلى هذه المجلة الشهرية؛ ففيها الزاد الوفير لكل طالب معرفة ولأصحاب الرسالة التعليمية الشريفة ذلك لأني أكتب في قضايانا العامة التي يشترك عامة الناس في الاهتمام بها على اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم. ** ** ** وبادرني أكثر من صديق: لماذا لا أجعل مقالي هذا يومياً، وليس أسبوعياً؛ فالحاجة إلى ما أتناوله - كما يقولون - ماسة وضرورية لما يجيء فيها من أفكار، ويُعالَج من قضايانا؟ إني مطمئن إلى أنهم غير مجاملين، وأقول لهم بكل صدق إن اهتمامي بما أكتبه، وبانتقاء الموضوعات التي أتحدث عنها، والأسلوب الذي أعبر به، ورغبتي في دقة ما يصدر عني يستغرق ذلك وقتاً كبيراً وجهداً طائلاً، لا يسمح لي بالكتابة اليومية التي قد يملها الناس مني، والتي لا أتمكن من إنجازها، فذلك فوق طاقتي وقدراتي ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. ** ** ** ومن أكثر الناس صراحة معي هؤلاء الذين يلومونني بأن عناوين مقالاتي في كثير من الأحيان تجيء شيقة جاذبة مثيرة، غير أن طول المقال أحياناً يحرمهم من استيفاء التمتع الكامل بما يقرأون؛ إذ لا يجدون الوقت الكافي لقراءة كل المقال في حينه، وقد يعود البعض لاستكماله فيما بعد. وأقول لهم: إن استيفاء الموضوعات التي أختارها فكراً وأسلوباً يحتاج مني لمثل هذا الكم، وقد يقتل الاختصار بعض الأفكار ثم إن الإيجاز المغطي لكل جوانب الموضوع مهارة نادرة ولست ممن وهبهم الله إياها. ** ** ** ومما علّق به بعض القراء في أكثر من مرة أن بعض موضوعات مقالاتي تناوله غيري من قبل. وجوابي عن هذا أن تناولي لموضوع تناوله آخرون هو تناول غير ما تناولوه منه.. فللموضوع أو القضية الواحدة زوايا كثيرة، وجوانب متعددة، كلّ يتناولها حسب مفهومه.. ويختلف الحديث عنها من زمن لآخر، ولا يتوقع أحد أن يكون كل ما يُنشر في الصحف اليومية أو يكتب هو حدثاً أو حديثاً لم يتطرق إليه أحد من قبل.. فهذا ضرب من المستحيل!! ** ** ** ومن طريف التعليقات أيضاً ما كتبه أحد القراء موجهاً كلامه لي عن أحد مقالاتي قائلاً: (إن مقالك هذا أشبه بخطبة جمعة أو موعظة). لست أدري ما يريد هذا القارئ هل هو مادح أم قادح؟.. إن كان مدحاً فقد أصاب في فهمه لمعنى الخطبة والمقال... فالمفترض أن كليهما يتناولان موضوعاً محدد العناصر، بالغ الأهمية، نافعاً للناس، موجهاً الحديث إلى القراء والمستمعين بعناصر معروفة (مقدمة - عرض - خاتمة) فهذه فنياً هي عناصر الخطبة، وعناصر المقال الصحفي، مع استيفاء لجوانب الموضوع، والإقناع بالفكرة التي يتحدث عنها. اللهَ.. الله أن نقلل من شأن الخطبة حتى وإن لم يُحسن بعض الخطباء أداءها، أو اختيار موضوعها، والمفترض أن تكون الخطبة ذات هدف، وقصد سام يحققه الخطيب أثناء خطبته، ويندرج هذا على الموعظة - كما هو هدف المقال الصحفي. ** ** ** وآخر علّق على أحد مقالاتي قائلاً: (إن مقالك هذا كأنه حصة تعبير مدرسي أو قراءة).. بالله: عليك ماذا في حصة التعبير المدرسي من عيب؟ وماذا في حصة القراءة من سوء؟ التعبير إذكاء لأفكار الطلاب، وإبراز لمهاراتهم الثقافية، والفكرية، والقراءة تزويد بالمعارف، وإثراء للثقافة اللغوية، ولو كان فيهما عيب ما كانا مقررين على جميع المراحل والسنوات الدراسية ليس في بلدنا فقط.. بل في كل مدارس بلاد الدنيا، فالتعبير والقراءة من أوائل المناهج المقررة، بل إن التعبير مقرر جامعي في ثوب مادة البحث. وإذا كانت حصة المطالعة (القراءة) تتمثل مثلاً في موضوع من أحد كتابيْ (النظرات، والعبرات للمنفلوطي أو كليهما أو ما يشبههما) كما كانت الحال أيام أن كنا طلاباً فإني أشعر بالفخر أن تكون مقالاتي أو بعضها مماثلاً لمقرر المطالعة وفيه هذه المختارات القيمة. ** ** ** وفي الختام.. فإني منذ أكثر من ثلاثين عاماً ناديت وأكرر النداء الآن بأن يكون هناك تكامل بين المؤسسات التربوية والمؤسسات الإعلامية، وفي مقدمتها الصحافة، وكل ما نعلّمه أبناءنا في المدارس من قيم ينبغي أن يتحول إلى قول مكتوب، تستفيد به الأجيال القادمة، وعمل تنفيذي تسعد به الحياة المعاصرة. لذلك كانت ندوة (ماذا يريد التربويون من الإعلاميين) التي عقدها مكتب التربية العربي لدول الخليج برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز هادفة إلى أن يكون تأثير مؤسسات الإعلام معززاً لجهود المؤسسات التربوية، متكاملاً مع عطاءات المؤسسات التعليمية. ودائماً أقول: (على الإعلام ألاّ ينقض في المساء ما تغزله المدارس في الصباح). بل عليه أن يعززه، ويثري جوانبه. ** ** ** إن رضاء كل الناس غاية لا تُدرك، ومن منا ليس فيه نقص أو عيب؛ فالكمال لله وحده، وعسى أن يعذرني من يرى شيئاً في مقالاتي لا يعجبه، وعذري أمام الله أنني مجتهد ولكل مجتهد نصيب. ** ** ** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.