البحوث والدراسات اللغوية العربية بحاجة إلى نقلة نوعية على مستوى المفاهيم والتمثلات، وعلى مستوى الطرق والأدوات. قضايا اللغة تشغل بال السياسيين والمخططين والمصنعين في مختلف بلدان العالم، والتجمعات الاقليمية أو الدولية، وليست وقفاً على الأكاديميين والباحثين أو المثقفين. يكفي أن نتذكر، مثلاً، أن كل اللغات الوطنية الرسمية لدول الاتحاد الأوروبي رسمية في هذا الاتحاد، وتحتاج أجهزته الإدارية إلى ميزانية ضخمة لترجمة الوثائق إلى لغات الاتحاد، التي يتزايد عددها بتزايد انضمام الدول إليه. ومع أن التعدد اللغوي هو شعار الاتحاد ومبدأه، إلا أن اللغة الانجليزية تهيمن كلغة عمل فعلية شبه وحيدة، وإن نازعتها هذا الوضع الفرنسية أو الألمانية أو الاسبانية. ولا يعي العرب بما يكفي بالفوائد الاقتصادية لأن تكون لهم لغة عمل وتعليم وإدارة واقتصاد وإعلام واحدة، من الخليج إلى المحيط، ناهيك عن الفوائد السياسية والثقافية والرمزية. وإذا كانت قضايا اللغة تشغل بال رجال الدولة والنخبة وعموم المجتمع في بلداننا العربية، فإن معالجتها لا تلقى العناية الكافية، خصوصاً إذا استحضرنا أن هويتنا اللغوية أخذت تهتز بفعل الضربات الموجعة الموجهة لها من الخارج ومن الداخل، بهدف التشكيك في وظيفياتها، وجعل اللغات الأجنبية والعاميات تكتسح تدريجياً مجالاتها. وهذا يوازي بقوته الضربات التي توجه إلى الهوية الإسلامية. فالعديد من الجامعيين الغربيين ومن جامعيينا ومثقفينا وأدبائنا أصبحوا مجندين ومدعومين لخدمة هذا الهدف، يكتبون عن وضعنا اللغوي، وتاريخنا وأدبنا، وتعليمنا، واقتصادنا، وإعلامنا، متحمسين لإحلال العامية محل الفصحى، أو الأجنبية محلهما معاً. لا يكاد يمر يوم دون أن يطلع علينا هذا المثقف أو، ذاك بخرجة إعلامية غير مسبوقة! وليس الصراع حول اللغة صراع سياسة أو اقتصاد وحسب، بل هو أيضاً صراع أكاديمي وتقني. فالمتشددون في الدفاع الحصري عن الموروث الفكري اللغوي العربي بنواياهم الحسنة أساءوا إلى العربية أكثر مما أحسنوا لها. لقد فوتوا عليها فرصة أن توصف وصفاً جديداً حديثاً يرتبط بما نعرفه اليوم عن الظواهر اللغوية وتقنيات معالجتها. فلا يعقل أن تظل المادة المعجمية العربية الموصوفة في القواميس الحالية حبيسة مواد وطرق القرون الأربعة الهجرية الأولى. ولا يعقل أن تعيش كتب النحو نفس الوضع، وألا يكتب للعربية أن يقام لها نحو جديد. ولك أن تقارن وضع معاجمنا بمعاجم من نوع Cobuild أو صيغ Oxford Dictionary أو webster، أو أن تنظر في مؤلفات النحو التاريخي للإنجليزية أو المعاجم التاريخية، الخ. فنحن لا نكاد نفرق بين التاريخ والحاضر في أبحاثنا! ولا نكاد نسهم بجديد في الدراسات اللغوية المقارنة، إلا فيما ندر من أبحاثنا. وقد نعدد الأمثلة التي تبين أن ما يكتب بالعربية لا يُرصَّد بما يكفي، ولا يواكب، ولا يبدع، إلا فيما ندر. وتنقصه الجسور بين ما يرد من الموروث القديم، وما أنتجه المستشرقون، وما ينتجه المختصون في علوم اللسان. وليس لك أن تستغرب هذا الوضع غير اللائق للدراسات والبحوث اللغوية العربية، مقارنة مع ما يجري في الدراسات الغربية. وأحد أهم الأسباب هو اهتزاز وضع اللسانيات في العالم العربي. لا تكاد تجد جامعة محترمة في الغرب إلا ولها قسم أو مركز خاص باللسانيات، يصف عموم اللغات وينظر لها، ويقارن بينها، وبين أدوات معالجتها، الخ. وتجد أقساماً للسانيات والفلسفة، أو اللسانيات والتاريخ، أو اللسانيات والبيولوجيا، أو غير ذلك من التخصصات المتداخلة. ولا تجد جامعة عربية واحدة لها قسم أو مركز للسانيات العامة. واللغويات ضرة الأدب في كل الأقسام، ولا تكاد تخرج إلى أقسام أخرى. وقد تعددت جمعيات اللسانيات في الغرب، وهي قوية، وندرت في العالم العربي، بوسائل ضعيفة. وتعددت المجلات اللسانية العلمية المحكمة في الغرب، بفروعها المختلفة، في التركيب، والدلالة، والمعجم، والصواتة، وفلسفة اللغة، واكتساب اللغة، واجتماعيات اللغة، والسياسة اللغوية، واللسانيات الحاسوبية، الخ. عدد المجلات المختصة في اللسانيات يفوق المئات، ويعالج جوانب مختلفة من المسائل اللغوية. فكم هي عدد المجلات اللسانية في العالم العربي المقبولة مرجعياً وعلمياً؟ ليس هناك ولو واحدة، فيما أعلم، تقوى قوة مجلة أجنبية. وفي الغرب معاهد ومدارس لسانية دورية في مستوى عال يلجها الطلبة والأساتذة للمواكبة. فهل يوجد واحد منها في العالم العربي في المستوى المطلوب؟ علماء اللغة في الغرب ينزلون كل يوم بمؤلفاتهم ومبتكراتهم في الشبكة العنكوبية. يمكن أن تنظر إلى ويكيبديا التي تيسر مفاهيم لسانية،أو إلى الأطلس العالمي للبنى اللسانية WALS، أو إلى المجلات اللسانية الالكترونية مثل lingbuzz أو Iberia، الخ. نحن بعيدون عن كل هذا لأسباب يطول شرحها. ماذا نفعل بعد كل هذا؟ إن دولنا وصنّاع القرار فيها ينتظرون منا مبادرات خلاقة جريئة، لا تتلخص في مقالات وتوصيات. ونحن ننتظر من النخبة السياسية والاقتصادية أن تدعم مبادرتنا. ومن أوليات ما يحتاج إليه اللغويون في هذه الفترة أن يشرعوا في إقامة مشروع جماعي الكتروني مفتوح، يُستكتب فيه العلماء العرب وعلماء العربية واللسانيات بمختلف تياراتهم ومذاهبهم ليصوغوا الرؤى والمفاهيم والتطبيقات والآليات. نحتاج بإلحاح إلى موسوعة لسانية عربية مفتوحة (ومحكمة) تكتب تدريجياً، وتوضع على انترنيت، وتجيب عن مجمل الأسئلة العلمية والسياسية والثقافية المتعلقة باللغة وقضاياها. وسيخدم هذا العمل علماء العربية وطلبتها، ومثقفيها، والقادة الساهرين على شؤونها، والمخططين للنهوض بها. إن الندوة التي ستلتئم قريباً في رحاب جامعة الملك سعود بالرياض (في قسم اللغة العربية) بمبادرة مباركة من الدكتورة الأستاذة الفاضلة نورة الشملان ستتيح فرصة أكيدة للدفع بالتنظير والمنهجية في تحاليل اللغة والأدب، ولطرح قضايا مصيرية وتخطيطية أوسع من الأمور التدقيقية الضرورية لكتابة البحوث العلمية. ورجاؤنا أن تسفر الجهود التنظيمية السخية والخيرة التي بذلتها الهيئة المنظمة للندوة عن نتائج عملية ملموسة تخدم هذه الأمة ولغتها، عماد وحدتها، واستمرارها التاريخي. * رئيس جمعية اللسانيات بالمغرب