قطع ياسر عباس عطية عهداً على نفسه بأن لا يبقى لليلة واحدة أخرى في هذا المكان البائس الذي لجأ إليه وعائلته في بغداد وأنه سيعود لمسقط رأسه في الفلوجة حتى ولو كان ذلك يعني المبيت على قارعة شوارعها الحبيبة. ولكن ثلاثين دقيقة بعد تنفيذ عهده كانت كافية لحمل عطية على تغيير رأيه والعودة من حيث أتى يجرجر أذيال الخيبة والحسرة على ماض لن يعود. وقال عطية الذي كان يعمل بقالاً في الفلوجة قبل رحلة الضياع والتشرد «لم استطع تحمل ما شاهدته. لقد ولدت في الفلوجة وترعرعت وشببت فيها. أعرف كل شبر فيها ولكن عندما عدت اليها لم استطع تمييز معالمها». مياه الصرف الصحي تغطي شوارع المدينة لتحيلها الى برك آسنة وروائح الجثث المتفسخة تحت أنقاض المنازل تزكم الأنوف. لا ماء ولا كهرباء الى جانب الانتظار لساعات طويلة عند نقاط التفتيش التي يشرف عليها الجنود الأمريكيون. تحذيرات متكررة من الألغام والشراك المفخخة. تبادل إطلاق النار المتقطع بين المقاومين والقوات الأمريكية تلك ابرز المشاهد في مدينة الموت والأشباح.وقال عطية الذي عاد أدراجه الى ذلك المستوصف المهجور في بغداد والذي تقاسمته عائلته مع 100 مشرد آخر من الفلوجة «اعتقدت للوهلة الأولى أن ما وقعت عليه عيناي ليس بمدينتي. كيف يمكن لنا العيش هناك». وانطفأت حماسة 200,000 لاجئ للعودة لديارهم التي فروا منها الشهر الماضي وحلت محلها المرارة واليأس حيث انهم يقولون بأن مدينتهم المحبوبة لم تعد صالحة للسكنى وهي غير آمنة البتة. وتلاشت الآمال سريعاً في إعادة المدينة المضطربة إلى طبيعتها مما أثار التساؤلات حول امكانية مشاركة سكانها في الانتخابات التي ستجري في 30 يناير المقبل. وقال الطالب الجامعي ياسر موفق عباس - 20 عاما - الذي كان من ضمن أول فوج مكون من 200 شخص من سكان المدينة سمح لهم بالعودة لتفقد ديارهم بأنهم لا ينوون العودة للفلوجة التي لم يبق فيها سوى رائحة الموت الذي يخيم على كل شيء. ويقول مسؤولون أمريكيون وعراقيون بأنهم حاولوا إفهام سكان الفلوجة باستحالة عودتهم إليها في الوقت الراهن ولكنهم سمحوا لهم بذلك بعد أن تعالت أصوات الاحتجاج. ويواجه المسؤولون ضغوطا لاعادة فتح المدينة قبل موعد الانتخابات وكانت احدى الدوافع للغزو الأمريكي للمدينة الشهر الماضي هي الرغبة في تهيئة الأوضاع تمهيداً لاجراء الانتخابات. ويقول مسؤولو قوات المارينز الأمريكية بأنهم يعملون كل ما في وسعهم لإعادة الحياة للمدينة ولكنهم يواجهون عقبات كبيرة ليست وليدة اليوم أو أمس بل موجودة منذ عشرات السنين الى جانب نتائج القصف الجوي للمدينة في الشهر الماضي. ويدرك القادة العسكريون بأن إعادة أهل الفلوجة للمجتمع العراقي ومشاركتهم في الانتخابات سوف ترسل اشارة قوية بأن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح. ولكن جهود كسب قلوب وعقول سكان المدينة تحطمت على صخرة الواقع بعد عودة أصحاب الدور والمنازل ليكتشفوا بأنها قد تحولت إلى أطنان من الركام. وقال سكان المدينة بأن الانتخابات هي آخر همهم.وقال عطية - 35 عاما - متسائلا «عن أي انتخابات تتحدثون؟ انا لاجئ. كيف يمكن للاجئ ان يشارك في الانتخابات دعوني اعود لداري أولاً ثم نتحدث عن الانتخابات». وبعد ثلاث ساعات من الانتظار والتفتيش تمكن عطية واثنان من اخوته من دخول المدينة وهم بين الخوف والرجاء. ولكن كانت الصدمة الأولى هي قيام الجنود الأمريكيين بتوزيع منشورات عليهم تحذرهم ضد عدد من المخاطر وتنبههم الى ان العسكريين الأمريكيين لن يستطيعوا ضمان سلامتهم اذا ما قرروا البقاء في المدينة.وطلب من كل ساكن حمل بطاقة صغيرة عليها قواعد خاصة جديدة خاصة على السكان الالتزام بها. وطلب من الذكور بين سن الخامسة عشرة والخامسة والخمسين حمل هويات خاصة. وقال المسؤولون العسكريون الأمريكيون بأنهم سيعودون لتطبيق نظام البصمات ومسح الشبكية لمنع المقاومين من العودة مجددا الى المدينة. وخلال رحلة عطية وأخويه في المدينة لاحظوا حجم الدمار الذي لحق بها ولكن يبدو ان الأسوأ كان في انتظارهم. وعندما لمح عطية سقف منزلهم تملكه شعور بارتياح للوهلة الأولى لبقاء المنزل في مكانه. ولكنهم مع اقترابهم أكثر وأكثر أخذ عطية وأخواه في الدعاء على الأمريكيين وبدا لهم أن الفتحة الكبيرة في المبنى المكون من طابقين قد أحدثتها دبابة ما تزال آثار عجلاتها باقية على الطين. وقال عطية ان نصف منزله قد دمر وان معظم الأثاث قد حطم.وقال عطية ان كل شيء في المنزل قد طالته يد التخريب والدمار. وقرر الاخوة الثلاثة أن المنزل الذي ولدوا فيه لم يعد صالحاً للمسكن. ولدى عودة الاخوة لبغداد حكوا لمواطنيهم ما حل بمدينتهم من دمار وخراب وقال لطيف جاسم - 45 عاما - بأنه غير مستعد للمخاطرة بالعودة للفلوجة بعد الذي سمعه من الاخوة الثلاثة. (لوس انجلوس تايمز)