في الثاني والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2010، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن روسيا تنتظر أن تقدم وارسو وواشنطن إيضاحات حول بواعث "تحصين بولندا ضد روسيا". وجاءت تعليقات لافروف بعد أن تقرر رسمياً نصب صواريخ أميركية اعتراضية من طراز باتريوت ، في نيسان/ أبريل القادم، في منطقة مورونغ البولندية، بالقرب من الحدود مع روسيا. وتحديداً على بعد 100 كيلومتر من مدينة كالينينغراد الروسية.فقد أوضح وزير الدفاع البولندي، بوغدان كليش، في العشرين من كانون الثاني/ يناير، بأن خبراء الدفاع البولنديين توصلوا إلى استنتاج مفاده أن مدينة مورونغ تعتبر أفضل مكان لنشر الصواريخ الأميركية، وليس ضواحي وارسو، كما كان مقرراً في الأصل. وقبل يوم على تصريح لافروف، قال مسؤول عسكري روسي إن البحرية الروسية ستعزز أسطولها في بحر البلطيق رداً على نشر صواريخ باتريوت في بولندا.وحسب المسؤول الروسي، فإن المقصود بذلك هو إمداد هذا الأسطول بمزيد من الصواريخ الجوالة بعيدة المدى، كما يتوقع تعزيزه بغواصات إضافية تعمل بالطاقة الكهربائية، تم تطويرها لتحمل هذه الصورايخ.وهذا فضلاً عن غواصات جديدة من طراز "لادا"، يستمر العمل في تصنيعها. ولاحقاً، نفت وزارة الدفاع الروسية هذا التصريح، قائلة إن إمداد أسطول بحر البلطيق بالأسلحة يجري وفق خطة جرى إعدادها سابقاً "في إطار التحوّل إلى الشكل الجديد للقوات المسلحة الروسية.وبما يتوافق مع برنامج التسليح الحكومي". والواضح هنا أن نفي الوزارة الروسية هو نفي سياسي وحسب، إذ إن جوهر ما قاله المسؤول العسكري الروسي يبقى قائماً. وقال عسكريون روس إن الصواريخ الأميركية في منطقة مورونغ البولندية يمكنها إسقاط طائراتهم حال تحليقها فوق منطقة كالينينغراد.ورأى محللون في موسكو أن رد روسيا ربما يتمثل في وضع صواريخ "اسكندر" بحوزة لواء القوات الصاروخية المرابط في كالينينغراد. وكان الكرملين سبق أن قرر في العام 2008 نشر هذه الصواريخ في كالينينغراد، رداً على مشروع الدرع الأميركي المضاد للصواريخ في أوروبا، في شكله القديم. إلا أن روسيا أعلنت لاحقاً تخليها رسمياً عن هذا القرار، بعد التعديلات التي أعلنها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على مشروع الدرع الصاروخي. وكانت بولندا والولاياتالمتحدة قد وقعتا، في الحادي عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2009، اتفاقاً دفاعياً، يسمح لنحو مائة جندي أميركي بالتمركز في الأراضي البولندية، بهدف صيانة منظومات باتريوت، التي سيجري نصبها هناك في الأشهر القادمة.وسبق أن حصلت بولندا على 48 مقاتلة أميركية من طراز (F - 16). رد الروس سريعاً عليها بوضع أربع بطاريات مضادة للطائرات من طراز (S-300PMU2) في جمهورية روسياالبيضاء. ورأى مراقبون أن الاتفاقية الأميركية - البولندية الأخيرة، التي عرفت "باتفاق وضع القوات" قد تصبح في الوقت ذاته أساساً قانونياً لنشر المزيد من الجنود الأميركيين في بولندا في غضون السنوات القادمة.وقال وزير الدفاع البولندي، بوغدان كليش،إن هذه الاتفاقية تعد "وثيقة مهمة جداًً" في العلاقات البولندية - الأميركية،وسوف تشكل أساساً للتعاون الثنائي المستقبلي. وكانت الولاياتالمتحدة قد أفصحت عن إبلاغها بولندا بأنها قد تكون أحد المواقع التي سيجري فيها نشر صواريخ اعتراضية في العام 2010، بموجب الخطط المعدلة للمنظومة الأميركية المضادة للصواريخ في أوروبا.وستقوم الولاياتالمتحدة بتوفير صواريخ باتريوت إلى بولندا وهي في وضع متأهب للقتال، وذلك خلافاً للتقارير التي أشارت إلى أن واشنطن ستقدم هذه الصواريخ لوارسو مع رؤوس مخصصة للتدريب. وسبق أن وقعت بولندا والولاياتالمتحدة ، في 14 آب/ أغسطس 2008، اتفاقاً خاصاً يقضي بنصب عناصر من الدرع الصاروخي الأميركي في الأراضي البولندية، في إطار التصوّر القديم لهذا الدرع.وقد خضع الاتفاق الآن لإعادة تعريف وفقاً للتصوّرات الجديدة. وفي الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر2009، وفي تطوّر حمل دلالات واضحة، دعا وزير الخارجية البولندي، رادوسلاف سيكورسكي،الولاياتالمتحدة إلى نشر قوات عسكرية في بلاده، وعموم وسط أوروبا، كإجراء احترازي ضد "عدوان روسي محتمل" على دول المنطقة. وأشار سيكورسكي، في كلمة له بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، إلى أن عدد العسكريين الأميركيين في بولندا لا يتجاوز في الوقت الراهن ستة جنود.وأعاد إلى الأذهان أن بلاده قد انتابها "قلق شديد" من المناورات الروسية - البيلاروسية المشتركة، التي جرت مؤخراً قرب الحدود مع بولندا، وشاركت فيها مئات الدبابات.ورأى سيكورسكي بأن روسيا قد حاكت خلال تلك المناورات استخدام أسلحة نووية وإنزال قوات على السواحل البولندية. وعلى الرغم من المخاوف البولندية ( كما مخاوف دول البلطيق)، التي لا تزال قائمة حيال القوة الروسية، فإن ما يمكن قوله هو أن الوضع في أوروبا قد تغيّر تغيراً جذرياً من الزاوية الاستراتيجية، وبات في مصلحة الغرب على نحو جلي، وذلك اعتباراً من العام 2004 ، عندما انضمت إلى حلف شمال الأطلسي(الناتو) سبع دول جديدة هي: ليتوانيا ولاتفيا واستونيا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا وسلوفينيا.وبالنسبة للروس، فقد كان لهذا التطوّر أثر أكثر عمقاً مما أحدثه انضمام بولندا والتشيك والمجر للناتو. ففي الغرب أزاح حلف الأطلسي روسيا على نحو حازم من ساحل بحر البلطيق، مما جعل مقاطعة كالينينغراد محاصرة من دول الناتو، إذ تفصلها عن بقية الأراضي الروسية دولتان من دول الحلف هما بولندا وليتوانيا. وفي الجنوب تم احتواء روسيا من جهة ساحل البحر الأسود، حيث أضيف إلى عضو الناتو القديم تركيا عضواه الجديدان وهما رومانيا وبلغاريا. وهناك نقطة مهمة تكمل هذه الصورة، فعشية انضمام الأعضاء السبعة الجدد للناتو تبنى البرلمان الأوكراني قراراً يمنح قوات الحلف حق المرور بالأراضي الأوكرانية. وربما يكون ظهور مقاتلات حلف الأطلسي قرب الحدود الروسية لا يعني شيئاً للوهلة الأولى، ولكن إذا ربط ذلك بنشر محطة الرادار ذات الأهمية الإستراتيجية على أراضي النرويج، لتغطي أجواء دول البلطيق، وبتحديث ستة مطارات في هذه الدول، ورفع مستوى استيعابها العملياتي، فسيبدو واضحاً أن ذلك التواجد يعني السيطرة على مسرح العمليات العسكرية في تلك المنطقة.وبصفة خاصة، فإن تحديث المطارات الستة في دول البلطيق يتضمن استيعابها من 200 إلى 300 مقاتلة في وقت واحد. وبالعودة للموقف الروسي من الاتفاق الأميركي - البولندي الأخير، لم يكن التلميح بالرد على وارسو بالأمر الجديد على الروس، ففي آب/ أغسطس من العام 2008، نسبت صحيفة التايمز اللندنية إلى مسؤولين روس قولهم إن روسيا تنظر في تسليح أسطول البلطيق برؤوس نووية، لأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة، وذلك رداً على خطط نشر منظومة الدفاع الصاروخي الأميركية في أوروبا.وقال هؤلاء إن ذلك يشمل الغواصات والسفن الحربية والقاذفات الجوية التابعة للأسطول، الذي يتخذ من كالينينغراد مقراً له.وجاء ذلك الموقف بعد أربع وعشرين ساعة من تحذير الكرملين بولندا من إمكانية تعرضها لهجوم نووي، بعد موافقتها على نشر عناصر من المنظومة الأميركية في أراضيها. وقال الجنرال أناتولي نوغوفيتسين، نائب رئيس هيئة الأركان الروسية، إن هذا الاتفاق "لن يمضي قدماً دون عقاب." كما ألمحت روسيا إلى إمكانية توجيه صواريخ نووية نحو أوروبا من قواعدها في كالينينغراد وروسياالبيضاء. إن النزاع حول بولندا، أو ارتكازاً عليها، يمثل صورة أخرى من صور الحرب الباردة، المستترة أو الصريحة، بين الشرق والغرب، اليوم كما الأمس.وما يدور في البحر المتوسط أو المحيط الهندي لا يختلف في جوهره عما يدور على ضفاف البلطيق.