نعيش حياتنا المعاصرة غالباً بين مزيج من الجدية والتعقيد؛ حتى أن الفرد منا ينسى نفسه وسط مشاغل الحياة ولا يعطيها جزءاً من الترفيه والراحة، ويعود ذلك إلى قلة مصادر التنفيس والترفيه داخل المدن الكبيرة المكتظة بالسكان؛ وحصرها تحديداً في الأسواق والمولات التجارية المغلقة؛ دون أن يكون هناك قرى ومواقع سياحية وتراثية مفتوحة أمام الجميع، وتمنحهم "حياة متجددة" مع الفرح والجمال والاحتفاء بالهدوء بعيداً عن ضجيج المدن المرتفع.. وعلى الرغم من أن كل منطقة من مناطق المملكة تمتلك مقومات جذب سياحي وترفيهي، إلاّ أن ما ينقص سكان هذه المناطق هو التخطيط للترفيه والتخلص من التعقيد، وذلك بداية من منازلنا التي حولناها إلى "صناديق مغلقة" لامجال فيها لراحة ساكنيها، لأن تصاميم بيوتنا مخصصة للضيوف الذين لا يأتون إلينا إلا كعابري سبيل، وعدم التفكير بتجديد الحياة بإمكانيات بسيطة في ظل ارتفاع الأسعار، فمثلاً مدينتا الرياضوجدة من المدن المكتظة بالسكان، وإلى الآن لا يوجد أمام محدودي الدخل للترفيه عن أنفسهم سوى التسوق أو الخروج إلى الثمامة أو الكورنيش، وفي المناطق الجنوبية والتي قد تكون أوفر حظا فإن مقومات الطبيعة صيفاً أو شتاءً قد تساعد رب الأسرة في الخيارات المتعددة لوجود المتنزهات الطبيعية والفعاليات الشتوية برجال ألمع ومحايل عسير وأبها. تنوع أسبوعي يقول عيسى الألمعي لقد حرصت أنا وعائلتي كل أسبوع على الخروج من المنزل لكسر الروتين والإجهاد من العمل، حيث نتفق عند نهاية العطلة الأسبوعية على المكان الذي سنذهب له الأسبوع التالي، وبذلك نحمس أنفسنا بشكل لا يشعرنا بإرهاق العمل والجدية الحياتية التي أصبحت سمة من سمات العصر، فأحيانا نذهب إلى تهامة للتنعم بدفء جوها، وأحيانا نذهب لرجال ألمع لتميز فعالياتهاالأسبوعية وزيارة قرية رجال الأثرية، وأحيانا نقضي الإجازة بالقيام بالواجبات الأسرية والعائلية. الأطفال يتمنون استمرار الفعاليات الترفيهية دون حصرها في الأسواق «ارشيف الرياض» عائق الإمكانات المالية وقد يكون عيسى وأسرته أكثر حظاً من عبير القحطاني وهي متزوجة ولديها ثلاثة أبناء، وقالت: إن المشكلة التي تواجهها وزوجها عند نهاية كل أسبوع تتعلق بالإمكانات المادية، فهي ترى أن لا أحد يفضل البقاء في المنزل عن طواعية واختيار، بل إن أي تحرك خارج المنزل يعني صرف مبالغ إضافية تؤثر على ميزانية البيت، فتناول غداء أو عشاء في مطعم قد يكلف ثمن أربع وجبات تحضر في البيت، بل أحيانا حتى الذهاب إلى أحد الموالات يصبح مغامرة مالية، وبالأخص عند اقتراب نهاية الشهر، فالمسألة لا تتعلق بعقليات أو نمط سلوكيات إطلاقاً. الثمامة نموذجاً وللشباب رأي آخر أيضاً، حيث تحولت الثمامة في مدينة الرياض من منطقة صحراوية تفتقد إلى أبسط المقومات والخدمات الضرورية إلى منطقة سياحية، يقول الشاب فهد الخليف إن الثمامة هي المكان الأول المفضل لسكان الرياض في مجال الترفيه والسياحة، حيث تشهد الثمامة إقبالاً كبيراً من المواطنين لقضاء أوقات طيبة وجميلة، وخصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع أيام الخميس والجمعة وفي فصل الشتاء بالذات، حيث يكثر الإقبال على الثمامة بسبب إقامة المخيمات الشتوية والتي يتسامر فيها الشباب في أوقات الإجازات، وتصل أسعار إنشاء المخيمات إلى مستويات كبيرة جداً خصوصاً المخيمات الحديثة والمتطورة والتي تضم كافة وسائل الراحة من خلال أجهزة الستالايت، والتكييف، وغرف النوم والمجالس الراقية مبيناً أن كثيراً من أصحاب المخيمات يفضلون عدداً من المواقع القريبة من الكثبان الرملية. أطفالنا والترفية وترى عهود محمد بأن صعوبة الحياة والتعقيدات التي نحن فيها يجب أن لا تنسينا أطفالنا وأنهم بحاجة للتغيير والخروج من جو المنزل والمدرسة، فأنا حريصة على أخذ أبنائي كل خميس لأحد المولات التي تتوفر فيها كافة الاحتياجات من مطاعم وكوفيهات وألعاب أطفال، حيث أخصص مبلغاً من المال لهذا اليوم حتى يستطيع أبنائي استقبال يوم الجمعة بجاهزية أكبر للمذاكرة والمدرسة، أما عني وزوجي فإننا نحاول بين الفينة والأخرى استغلال الأجواء الرائعة في معظم الأيام للخروج بالسيارة واستنشاق هواء لطيف، خاصة وأن مدينة تبوك تفتقد للمناطق المفتوحة التي لم تستثمر بعد. منزل ترفيهي علي حسن رجل أربعيني خطط ونفذ مكاناً للترفية العائلي بسطح منزله وعمل منه نادياً رياضياً مصغراً يضم صالة بلياردو وتنس وكرة طاولة، وجلسة للتلفاز وبيت شعر صغير، وذلك اعتقاداً منه أن مصدر الترفيه يبدأ من المنزل، وقال: في بعض الأحيان قد يحرمني عملي المتواصل من الاهتمام بعائلتي فارتأيت أن أهيئ لهم متنفساً يقضون فيه جل أوقات فراغهم حتى يتسنى لي الخروج معهم للتنزه. ترفيه الأسواق وحول الموضوع يقول محمد العجري المنسق الإداري لأحد المولات بعسير؛ إن القاعدة والبنية الأساسية للجذب والترفيه للزائرين يكون بتأمين كل مايوفر لهم الراحة والانسجام مع المكان كالكوفي شوب وتوفير الواير لس للإنترنت وعروض البروجكتر والمطاعم وألعاب الأطفال، والتعاون مع الجهات الحكومية والخاصة لعمل تعاون مشترك كمسرح للطفل أو معرض للفن التشكيلي أو جلب فرق أجنبية تعرض عروضاً بهلوانية، وبهذه الطريقة تستطيع المولات من خلال الخدمات التي تقدمها من الدخول في مجال التنمية السياحية الداخلية والمنافسة لتقديم الأفضل. وأضاف أن خصوصية المجتمع لها الأولوية، حيث هناك جلسات مفتوحة ومغلقة حسب حاجة الأسر، إلى جانب المعارض الموجودة بالمول والتي تساعد بشكل أو بآخر على جذب الزوار بتخفيضات بين فينة وآخرى و"تنزيل" أحدث الماركات العالمية. جانب من مشروع تطوير القرية التراثية في الغاط أسر "فوضوية"! ويقول الأستاذ طلال الناشري رئيس الخدمة الاجتماعية في مستشفى الملك فهد بجدة إننا نحتاج بين الفينة والأخرى لتغيير الجو ونمط الحياة ليستطيع الفرد منا أن يعود لعمله بجد ونشاط، فالشخص الذي يستطيع أن يقتطع من وقته فرصة للترفيه يساعده ذلك على أداء المهام المطلوبة منه. وأضاف أن غالبية الأسر السعودية بعيدة جداً عن ثقافة التخطيط والوعي والتقيد بالسلوكيات؛ فنراها تخلط الأمور بعضها ببعض ولا تقسم أوقاتها بالشكل المطلوب حتى في وقت الترفية الواجب الاستمتاع به نجدها "فوضوية" ويضيعون على أنفسهم التنظيم والاستمتاع بسبب السلوكيات الخاطئة والتنظيم غير السليم، إلى جانب أن بعض الأسر تستغني عن الترفية بسبب الاهتمام بالأساسيات ويأتي بعدها التفرغ للكماليات التي تأتي في المرتبة الثانية والتي تعتبر غير ضرورية. واشار إلى أن مصادر الترفية بالمملكة بوجه عام تتركز في التنزه بالحدائق العامة؛ ولكنها قد تكون قليلة بسبب تغيرات الجو المستمرة، وكذلك "طلعات البر" والتي تكون حصراً على الشباب، وهناك التسوق في المولات، حيث نجد أنها في الآونة الأخيرة استطاعت تلبية رغبات أكثر المواطنين؛ من حيث التجهيزات من تكييف وأماكن للإنترنت والكوفيهات وألعاب الأطفال والمطاعم، ولكن ماينقص هذه الأماكن هو وجو أندية رياضية نسائية وفعاليات متنوعة تجذب الزائرين، أيضا حدائق الحيوانات تكاد تكون شبه مفقودة، هذا غير أن الرحلات من منطقة لأخرى قد تكون مكلفة أحيانا، ولكن المال ليس وحده العامل الرئيسي الذي يجبر الناس على المكوث بحسرة في منازلهم، بل يعود الأمر إلى أننا نميل بطبيعتنا إلى الحياة النمطية الروتينية، لكوننا مجتمعاً تقليدياً، لا يحسن إدارة أوقات الفراغ، فضلا انه ليست لدينا أي هوايات واهتمامات خارج نطاق البيت أو العمل، ومدننا خير دليل على ذلك، إذ تجد معظم الحدائق العمومية مهملة او مخربة. طفش وتشاؤم! وأشار الناشري إلى أن الحياة الثقافية في نجتمعنا تعاني من ركود كبير، فالعروض المسرحية والفعاليات الترفيهية قليلة جداً، وأماكن الترفيه الخاصة بالأطفال محدودة أو مكلفة، وتبعا لذلك تستسلم الأسر لهذا النمط من الحياة الروتينية الخالية من أي مظاهر للترفيه، الأمر الذي يؤثر سلبا على نفسية الأفراد، حيث تسود لغة الشكوى والتشاؤم والطفش وعدم الرضا عن الذات. وينصح الناشري بعدم الاستسلام إلى هذا الوضع، مطالباً بوضع برنامج ولو مرة واحدة في الشهر لكسر الروتين، إما بالسفر أو الذهاب إلى الشاطئ أو المتنزهات، أو زيارة الأقارب شريطة أن لا تتحول هذه الزيارات إلى فرصة للحديث عن المشاكل العائلية القديمة منها والجديدة،كما ينصح السيدات بعدم تأجيل أشغال البيت كلها إلى نهاية الأسبوع، حتى لا يضيعن أوقاتهن في الطبخ والتنظيف، مؤكداً على أن حسن تدبير الوقت والتنظيم هما أساس الحياة الناجحة، والانفتاح على الآخرين أفضل من الانعزالية التي تقود إلى الضجر والاكتئاب. تجنب ضغوط الحياة ومن الناحية الصحية يرى د. يحيى الخالدي استشاري طب الأسرة بمركز الدراسات العليا لطب الأسرة في عسيرأن حياتنا مليئة بالمنغصات، من المرض والتعب والإجهاد والخوف والقلق، بل أكاد أجزم أن الأسرة تتعرض للعديد من الضغوط الحياتية التي قد تتحول إلى مشاكل صحية واجتماعية ما لم يتم التدخل مبكراً للوقاية منها وعلاجها، مشيراً إلى أن من أهم التدخلات الوقائية والعلاجية لمعظم المشاكل النفسية والعضوية هي القيام ببعض الأنشطة ومنها على سبيل المثال لا الحصر الترفيه البريء الذي يساعدنا على جعل الحياة طبيعية ومتوازنة يغلب عليها السعادة بدلاً من الاكتئاب. برنامج القرى السياحية من جهة أخرى تبنت الهيئة العامة للسياحة والآثار برنامجاً للقرى التراثية في المملكة، بهدف إيجاد مورد مالي يساهم في تنمية المجتمعات المحلية في المحافظات والمدن والقرى، وتنمية روح التكافل بين أفرادها من خلال تنمية الخدمات وتشجيع الاستثمار السياحي، إلى جانب إيجاد فرص عمل جديدة لتوظيف فئات المجتمع المحلي وزيادة دخلهم، ورفع معدلات الإنفاق الداخلي للسياح. ويأتي اهتمام الهيئة بهذا البرنامج انطلاقا من أهمية القرى التراثية كوعاء لإقامة الفعاليات الثقافية والتراثية، حيث سيسهم البرنامج في إعادة وتأهيل وتوظيف القرى التراثية المختارة، والحد من نسبة هجرة السكان المحليين إلى المدن الرئيسية مما يساعد على تحقيق التوازن التنموي، كما أن المشروعات المستدامة التي سترافق التنمية سوف تعود بالنفع والفائدة على المجتمع المحلي وعلى الأسر المحتاجة، بالإضافة إلى أن مشروع تنمية القرى والمباني التراثية سوف يحافظ على الهوية التراثية العمرانية، وزيادة الوعي والتكافل الاجتماعي بين أهالي القرية الواحدة، وكذلك زيادة نمو وتشغيل الخدمات المساندة مثل الفنادق والشقق المفروشة والمطاعم والنقل، ودعم وتسويق المنتجات الزراعية والحرفية، والمأكولات المحلية التي ينتجها سكان القرية والمناطق المحيطة بها، وإحياء نشاطات الحرف والصناعات التقليدية، وإبراز تراث المنطقة وثقافتها. ويتضمن مشروع تنمية القرى التراثية الذي تعمل الهيئة على تنفيذه ليعم مناطق ومحافظات المملكة خمس قرى في مرحلته الأولى ليشمل المشروع 64 قرية قديمة، حيث تم البدء في مشاريع المرحلة الأولى التي انطلقت العام قبل الماضي، وتشمل:البلدة القديمة في الغاط، قرية رجال المع، قرية ذي عين، بلدة جبة، بلدة العلا القديمة.