على طريقة أستاذنا الكبير فكراً والمتمكن إبداعاً د.فوزي البشبيشي أقول : إن بي شوقاً الى سلوك المهيع الصحيح المؤدي إلى سبر أغوار الجمال الكامن في الشعر أيا كان مستواه ، وما ذلك إلا لأنني أومن بأن الشعر هو الحاضن الأول للجمال ، وفيه يجد المهتم بغيته من المتعة التي لا تتأتى إلا بفضله متى ما كان مصدره الشاعر المتمكن من أداته الشعرية لغة وثقافة وجمالاً ، فبهذه الأدوات لابد من ملاقاة شعر هو في أصله جاذب للقراءة التي تبحث في السطور عن المعاني الجمالية وجذورها التي تتكئ في تكوينها على الحس المرهف الذي هو بدوره يتفاعل متلقياً أو معطياً في آن ، وهو عندما يكون في حالة العطاء فهو قادر على التجلي عبر الأخذ والعطاء وتبني المثل الجمالية، ففي الشعر تبرز المعطيات التي تكون ممثلة لهمّ أو هموم متشابكة في الحياة الإنسانية كافة بحيث تكون المشاركة الوجدانية فيها من الأمور المتماسة بين كافة الأطراف فيكون التعامل مع الحس الجمالي بمقدار سعة الإطار الاستيعابي للمتلقي/المعطي بوصفها عملية تبادل مراكز بين الإنتاج ، والاستهالاك في هذا الميدان القابل للمشاركات الوجدانية بكل سهولة فيأتي الشعر في ومضات خاطفات لينير السبيل في أرواح متلقيه إلى كوامن غير مقدور عليها إلا من خلاله ، فللبياض البعيد عندما يكون عنواناً لمجموعة شعرية فإنه يدل بكل سهولة على أن هنا أفقاً دل عليه البُعد ، لأن البعيد يدرَك بالنظر في الآن ولكنه في الإدراك الفعلي يكون بعيداً ويحتاج لوقت حتى يتحقق الوصول إليه ، وفي هذا المدى يحقق الشاعر بغيته بالصورة التي هي وسيلته للإطلالة على الآخر : الشاعر عصام خليل رسم في ديوانه (للبياض البعيد) حالة شعرية خاصة به منذ البداية التي يشي بها العنوان كما أسلفت القول ، وهو في الإهداء يصافحك بشدة : (إلى أسامة .. عازباً .. مرتين) : صديقي الذي خبأته العصافير بين الأغاني ، لأنك أقرب من أي حزن إلى القلب ، لأرسم وجهك تحتاج إغماضة ..كي تراني!! ولكنه في حالة الدخول في تفاصيل الذات وتحققها من التواجد خارج مكانها يتوهج الحنين ف(سماء أولى!! ) وهي النظرة إلى ماكان في بداية التعرف على الحياة: /أرق من الماء كان، وكان خجولا ، شفيفا ، يحب الكلام البسيط ، ويأنس – إلا قليلا – بأترابه في المساءات ، حين تخرج أشجار طرطوس في نزهة ، أو يعن على بال عشب الحدائق أن يتسلى قليلا بما يتساقط من سمر الساهرين يقول لنا- غالبا- أين يذهب لكنه لم يقل: إنه سوف يترك ألعابه ، بيت جدته ، وصديقاته، سوف يترك قلبي وحيدا ، ليلعب في الحارة الثانية/ إن صورة طي الماضي في المخيلة وبسطَ بساطِهِ أمام العين النهمة يجسدان لوحة تشد العين الداخلية (=البصيرة) للنظر بالعين المجردة لمتابعة القراءة بغية استكناه الماورائيات وتصورها وتكثيفها لكي تتواءم مع الحدث فتجيء مقبولة لكونها جاءت بواسطة المبدع الذي تمكن من بسط الحدث أمام القارئ ليتفاعل معه :إذا ..!(= عنوان) يفسره في جوانيته: إذا كان لي أن أبوح قليلا، سأعلن _ في بادئ الحزن- أني تعبت، وأطلب - مثل جميع الينابيع – بيتاً من العشب، ترتاح فيه مياهي .. قليلا وعندما يصر خليل على (قليلا) فهو يعي بإدراك المبدع أن التكرار يعني الحفر للتأكيد وليس عدم الاهتمام كما يُتصور للبعض لأن قليله كثير يتكور ويزداد قليلا.. قليلا حتى يكون كثيرا مكثفا عند ملاقاة القارئ الآخذ في التدرج من قصيدة إلى أخرى ليصل إلى:آسف يابني ، مااستطعت البكاء كما أشتهي!