أفغانستان من أكثر الدول التي تعرضت للغزوات والحروب، وبصفتها دولة داخلية محاطة بدول تعقد معها صداقات وعداوات، فإن جغرافيتها المعقدة، وشعبها الذي احترف الحروب الداخلية والخارجية بحكم تكويناته القبلية والمذهبية، جعلا حياة الأفغانيين تنتقل من موت لآخر، وقد هزموا كل الغزاة، لكنهم عجزوا عن أن يبنوا لهم كياناً موحداً تندمج فيه التكوينات الشعبية وتتوحد على أساس وطني يجمع كل العناصر في بلد واحد.. أمريكا، ودول حلف الأطلسي تخوض حرباً طويلة، ويبدو أنه لم يغب عن بالها كيف انتصرت على الإسكندر الأكبر، وكل من تبعه من بريطانيين وسوفيات، وأخيراً وقوع الأطلسي في الفخ الأفغاني، ولأن كل حرب لها مشروعها ومشرّعوها، فإن المبرر غالباً ما ينطلق من أطماع ترسخها هوية الغازي، ومع أن أمريكا دخلت الحرب بمبرر منطقي في محاولة ملاحقة الإرهابيين، إلا أن الاعتماد على السلاح ورشوة بعض المتنفذين ، وترك الشعب يغرق في بؤسه بدون إصلاحات سياسية وإعمار يطال الشريحة الأكبر من المجتمع، وبناء مؤسسات تربوية وأهلية، أفقدت الأمريكان أي تأييد، بل وسعت دائرة التحالف مع طالبان حتى مع الذين كانوا يتعارضون معها من الشرائح الوطنية الأفغانية.. هجوم أمس الأول على دور الحكومة، وبما يشبه التحدي للتحصينات الأمنية والعسكرية، وفشل التحريات للوصول إلى عمق تنظيم طالبان واتجاهاتها ومصادر قوتها وتناميها فتح الباب على رؤية أخرى بتسجيل فشل حكومي وأمريكي في القدرة على هزيمة هذا التنظيم ، والسبب لا يعود إلى نفوذه، بل يعود لضعف الاستراتيجية الأمريكية التي تتعاطى معلوماتها من فصيل واحد، وهو ما جعلها تغرق في العراق لنفس السبب عندما اعتمدت على معلومات عناصر المعارضة العراقية الذين ضخموا نشاط الأسلحة فوق التقليدية التي كان صدام يسعى لها، وبعد الغزو انكشفت الحكاية عن لعبة أدارها المعارضون العراقيون بمهارة أعمت القوة العظمى عن فرز المعلومات والتحقق منها مما أوقعها في حرج مع العالم بكذبة التسلح النووي.. أفغانستان تتعامل معها أمريكا بنفس الأساليب، وقد دخلت في معميات طويلة بحيث لم تدرس، بشكل دقيق، التحولات الاجتماعية في أفغانستان، ولا كيف يفكر المواطن هناك، وكيف يتجه مسار الدين والقبيلة، وكيف يتحالفان ويتحاربان بمنطق المصالح، ثم لماذا ظل تصدير المخدرات واستزراعها هدفاً لمد عناصر الحرب المقاوم قوة دفع لهم؟ الآن، والصورة مغايرة لمنطق الغزو، فالخوف أن تطل طالبان من أفق أبعد أي أن ضرب المؤسسات الحكومية ، والوصول إلى قصر الرئاسة، سوف يضعفان هيبة الدولة والجيوش الغازية في مجتمع يعتبر المنتصر الوطني، مهما كانت أفكاره جاذبة لتأييد طبقات الشعب الأخرى، والفرصة مواتية لزيادة رصيد المقاومة من عناصر لاكسبت من الغزو ، ولا أمِنت طالبان، والأخيرة أكثر مكسباً لها إذ إنهم الأبقى على مدار المستقبل، وما لم تعالج أمريكا الأمور بسياسات جديدة فإن كل الاحتمالات قابلة لتغيير المواقف والأحوال..