راح يقلّب طرفه في الحلية الأثرية الصغيرة بين يديه، قيل إن عمرها يزيد على ألفي عام.. ألفا عام وهذه القطعة لا تزال كما هي بكل تفاصيلها لم ينلها خدش أو كسر، ولا تزال لماعة براقة.. يا لها من قطعة أثرية عظيمة.. لو نطقت هذه الحلية، وتحدثت عن نفسها وحكت تاريخها؟.. تمنى أن تتحدث وأن تقول شيئاً .. تفرّس فيها، نظر في كل جوانبها وزواياها.. خيل إليه انها بنظراته المستجدية سوف تجيب وسوف تتحدث.. وأنه بهذا التركيز الشديد والتلهف عن حكاية هذه الحلية فلا بد أن شيئاً ما سيحدث.. ولكنه وضع الحلية في كفه وأطبق عليها كأنه يريد أن يسكت تفكيره عنها.. راحت اسئلة تنثال على رأسه: من الذي صنعها؟! وبأمر من؟.. وما هي الآلة التي استخدمها؟.. ومن المرأة التي اشترتها واستعملتها؟.. ثم هل هي واحدة أم توارثتها عشرات النساء واستعملنها حلية وزينة؟.. كيف كنّ؟.. وما ملامحهن؟.. وكيف كانت حياتهن؟.. كيف عشن؟.. وكيف ذهبن؟ اسئلة متعددة وكل سؤال يشده إلى تفاصيل دقيقة جداً لا يستطيع حصرها ولكنها تأتي على أية حال.. وضعها أمامه وقال يا صاحبة الألفي عام.. كيف الحال؟!.. كيف السنين؟.. وكيف الشهور؟.. وكيف الأيام.. وكيف الساعات؟.. كيف كانت أحوال الناس الذين مروا بك ومررت بهم..؟ الذين رأوك أو رأيتهم؟.. الذين تحدثوا إليك أو تحدثوا في حضرتك... شيء عجيب أن يظل الإنسان أمام قطعة صغيرة جميلة ثمينة يهذي وهي صامتة في إباء وشموخ وتحد.. مسكين هو الإنسان ما أكثر ثرثرته وأسئلته وحركاته وسكناته يملأ الكون ضجيجاً وعويلاً وحركة، ويقف حائراً عاجزاً عن أن يستنطق قطعة أثرية يصنعها وتخلد بعده آلاف السنين!! ما أشد هشاشته وضعفه بل ما أشد غروره وكبرياءه، وغطرسته..!! هذا العاقل الناطق، يقف حائراً عاجزاً أمام جماد أخرس، فها هي تلك القطعة أمامه تملك البقاء، والصمت والتحدي!! اتعبته الأسئلة المحيرة الكثيرة..! وضع الحلية على جانب سريره واطفأ الإضاءة وراح ينشد النوم متناسياً لها، آثراً أن يُشغل ذهنه قبل النوم بالتفكير في شؤون الحياة اليومية المعتادة..: ماذا رأى؟.. وماذا عمل؟.. وماذا يريد أن يعمل؟.. مخططاً وهو في فراشه لأعماله القادمة، مستلذاً بأمانيه حول انجازها، وهذه من النعم التي حباها الله للإنسان كي يهرب من واقعه إلى عالم الأماني والطموح.. استغرق في نوم هادئ لذيذ.. زاد لذته أنه رأى الحلية الأثرية أمامه وهي تتحدث بلغة فصيحة وجرأة متناهية:- تسأل من صنعني؟ صنعت في بلاد السند منذ أكثر من أربعة آلاف عام!! هتف المسكين أربعة آلاف عام؟! كان الناس يتصورون أن عمرك ألفا عام، سوف يتضاعف ثمنك، إلى اضعاف مضاعفة..! ولكنها نهرته قائلة: صنعني إنسان عامل بسيط حرقت النار أطراف أصابعه، ولهبت وجهه حتى صار أسود من كثرة الدخان وشدة اللهيب.. ودفعني إلى تاجر وضعني إلى جانب مجموعة من الحلي.. اشتراني ملك عظيم ليزين صدر ابنته في ليلة زفافها.. وقد كان الناس في تلك الليلة ينظرون إليّ أكثر مما ينظرون إلى وجه العروس!! عشنا في بيت العروس حتى صارت عجوزاً ثم ماتت.. وبعد أن مات أبوها الملك العظيم ورثتها ابنتها التي جار عليها الزمان فباعتني بأبخس الأثمان، مع مجموعة من الحلي، لكي تدفع عن نفسها غائلة الجوع والموت..! ثم تناقلتني الأيدي.. فدخلت بيوت الأمراء، والتجار، والمشهورين.. وتأرجحت كثيراً على صدور فاتنات الزمان..! ولن احدثك عن التفاصيل فهذا يعني أن أحدثك عن أكثر من أربعة آلاف سنة، فهل تطيق ذلك؟!! صحا من نومه فإذا هي ماثلة أمامه.. وقد ساوره خوف.. خوف السنين والأحقاب، وساوره سؤال مهم: إلى متى ستظل هذه الحلية لديك؟؟ وإلى من ستذهب بعدك..؟!