..لم يكن يغيب عن البال المزيج البشري لضفتي الخليج، فمن جهة الشرقية يعرف بالخليج الفارسي وجهته الغربية بالخليج العربي، ولكن مر على هذا الخليج مراكب وسفن من شعوب وحضارات توجت تاريخها في الهلال الخصيب وامتدت منه لتضفي مكتسبات الحضارة على ضفاف لم يبدأ من الخليج ولم يقف عند البحر المتوسط. ..ثمة تفاعلات اجتماعية وثقافية واقتصادية منذ منتصف السبعينيات بدت أكثر حدة، خاصة، في مرحلة الطفرة النفطية خلال الأعوام التي تلت عام 1973 في منطقة الخليج لعبة الاستقطاب السياسي والاقتصادي بالسوق المفتوحة، وتنافر موازين القوى بين الدول الكبرى وصراع الثنائيات السياسية كالدولة والقبيلة، الأنظمة العشائرية والمجتمع المدني، الشيوعية والرأسمالية، وثنائيات ثقافية مختلفة كالبداوة والتحضر، الريف والساحل، الشرق والغرب، التقليد والحداثة وهذا ما انكشف خلال قرن كامل إلا أنه يمكن حصر آثار ثقافية -موسيقية وافدة ما بين مقحمة ومندمجة من مصادر عدة: -التراث الفارسي-الإيراني (الأذربيجاني والكردي). -التراث الشرق أوروبي والروسي (الأرمني والقوقازي والسفاردي والسلافي). -عصر الديسكو والبوب في الأغنية الأوروبية. ..تلك المصادر دخلت الأذن العربية في الخليج، واستطاعت أن توجد لها موطئ قدم رغم أنها تعايشت على الهامش لفترة حتى تحولت عناصرها إلى مقومات للأغنية الخليجية، وهذا ينطبق على الفنون الأفريقية التي استثمرت سواء أنغامها حسب السلم الخماسي أو إيقاعاتها. ..ولابد من عودة إلى تذكر أنه خلال القرون الأخيرة بين القرن الثامن عشر والواحد والعشرين لم تخل الحركة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من تجاذبات السفر والترحال والهجرة والتوطن بين ضفتي الخليج، ولم تنعكس بشكل مباشر حالات الاندماج إلا بصور متعسرة، ففي الكويت (وتوازت معها في فترات مختلفة كل من البحرين، والأحساء، وحائل في الفترة 1892-1921) ستجد أنها محطة للتجار الهنود والإيرانيين كذلك العمال والخدم من أفريقيا، وملتقى لبدو وحضر الجزيرة العربية (شرقها وشماله ووسطها)، ونقطة انجذاب لكثير من الإخوة العرب إبان الثلث الثاني للقرن العشرين من فلسطين ومصر وسوريا وسواها (سببها شركات البترول ومؤسسات الدولة كالتعليم والصحة والإعلام وسواها). ..وقد شكَّل العنصر الفارسي (الشيعي المذهب/الإسلام) أو الجالية الإيرانية أحد صور تكوين المجتمعات الخليجية، وأفادت دول مثل البحرين وقطر والكويت والإمارات. ..وعرفت رموزاً ثقافية في المشهد الاجتماعي الخليجي تجاوز توطن العوائل التجارية، نحو تمظهرات الفضاء الثقافي كمزاولة التعليم الديني، والفنون من تمثيل وموسيقى مثل فرق الهبَّان بأنغامها وإيقاعها. ..ويعرف أن توافر نغمات وإيقاعات متعددة من الهند وإيران وأفريقيا كانت إضافة على سجل كبير من المقامات والإيقاعات العربية غير أنها بقيت في أشكالها وطرق أدائها على الهامش، فلم يكيف في الأغنية سوى بعض الإيقاعات (الطنبورة والسواحلي والبستة) والنغمات بآلاتها الموسيقية (الصرناي والهبان)، وحدث ذلك إبان حركة الحداثة نهاية الخمسينيات مع يوسف دوخي وأحمد باقر وأحمد الزنجباري في استثمار الالآت والإيقاعات تطور لاحقاً حتى السبعينيات مع عبد الرحمن البعيجان وغنام الديكان ومصطفى العوضي في ألحان قدموها لكل من عبدالكريم عبدالقادر ومصطفى أحمد. ..وقد حدث تحول عميق في غناء فترة الثمانينيات جرى في استخدام المقامات والأجناس النغمية (دون تجاهل لنبرة الحنجرة ولونها ومداها) مثلما حدث في التعامل مع الإيقاعات بمختلف بيئاتها ومناسبة ألوانها لشكل الأغنية التي بدأت تشق طريقها، فقد استمر وراثة تقاليد غناء الجزيرة العربية في لون الطرب الانفعالي عبر مقام الرصد والبياتي والسيكا، وأبرز تلك النماذج ما غناه الرويشد من خالد الشيخ: "هلا–رصد/بستة"(1989)، ونبيل شعيل من عبدالله الرميثان: "جيتك–سيكا/رومبا"(1990)، ومن الرميثان غنى عبدالمجيد عبدالله:"الهنا والسعادة-رصد/يافعي" (1989). ..وقد انفتح الجيل على ثقافات الأقاليم العربية من خلال استثمار ثقافي عالٍ. سنجده عبر النصوص الشعرية بمختلف تجاربها بين ما هو معاصر (التفعيلة وقصيدة النثر) وما هو من حقب متفاوفة القدم (العامودي والموشحات والأزجال المغربية والحميني اليمني) عند حناجر بحرينية سلمان زيمان وأحمد الجميري وخالد الشيخ وعارف الزياني وفرقة أجراس، بينما انفتحت الحناجر الكويتية على تنويعة من ألحان مصرية وعراقية ويمنية (عبدالله الرويشد ونبيل شعيل والعنود) مقابل استثمار ألوان المنطقة العربية عند الملحن عبدالله الرميثان لصالح حناجر عمل معها (نبيل شعيل وعبدالمجيد عبدالله ومحمد المسباح). *مقاطع تنشر على حلقات من دراسة مطولة عن تفاعل الآخر في ثقافة الخليج.