نريد أن نفتح فيما يلي ملف العشق قديماً بكل مكوناته المكانية والبشرية..وهو ملف قد يبدو شائكاً في نظر البعض، لأنه يُلامس الوجدان وتلك العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة، وهي علاقة ظلت مدى التاريخ بحدّيتها محل جدل طويل ما بين العاطفة والغريزة، لكنها في كل الأحوال تظل جزءاً من العلاقات الإنسانية التي لا يُمكن تجاهلها أو تهميشها.. لأنها في حدّها الإيجابي كانت تعبّر عن أنبل العواطف وأسماها، وتنقيتها من شوائب المصلحة.. لتنجز بالنتيجة مطولات من أجمل قصائد الغزل التي أسهمت في بناء الذائقة العربية، ولتروّض ما استوحش منها، مثلما أنها في حدّها السلبي الغرائزي قد حطت من قيمة تلك العلاقة إلى مستوى «الحيوان المتوحش»، لتفرز كما نرى في واقعنا الراهن للأسف جملة من السلوكات الاجتماعية الخادشة كالمعاكسات وغيرها.. مما بات يُقض مضجع المجتمع. محاولين أن نسترد ملامح ذلك العشق من «زمن الأولين» الذين لا زالت قصصهم ترطب الألسنة. العشق تحت مظلة القيم *حكاية: عندما خرج (راشد) صبيحة ذلك اليوم الصيفي اليابس، تحت سياط أشعة شمس نجد الحارقة، لم يكن يُفكر بما هو أكثر من وصوله باكراً إلى مقر عمله في فرقة المطافي قبل وصول رئيسه "الغثيث" الذي لا شغل له سوى الردح في موظفيه، وهو الذي وجد نفسه مسؤولاً عن هذه الفرقة في بلدة صغيرة تثير كل أنواع السأم.. حيث كان يُردد ناقما:(هذا بلد هذا.. سنة وشهرين ما طفينا فيها نار زقارة حتى!)، مما جعله يصب جام سخطه على جنوده الذين كانوا يمضون نهارهم في التثاؤب؛ ليحاسبهم على تأخير الدقيقة والدقيقتين.. كان (راشد) يهرول ببذلته الكاكي، يتلفت إلى الخلف من حين لآخر على أمل أن تعبر سيارة، علّه يتعلق بها إلى أن يقترب من موقع عمله، لكنه ما إن مرّ جوار إحدى البيوت المجصصة حديثاً وعالية الشرفات حتى حانت منه التفاتة عابرة لتلتقي عيناه بعيني (لطيفة).. ذلك الظبي الشارد من محازته حسب وصفه هو، وهي تهم بالتخلص من مياه الغسيل.. عندها أحس برعشة زلزلت كيانه، وغيّبت صورة المدير والمطافي وخراطيم الماء.. بل لعله ظل طريقه، وما عاد يعرف إلى أين سيذهب.. كل ما يعرفه أن قلبه تعلق تحت فيء ذلك الجدار المجصص، وتوقفت عقارب الساعة. عبرت جواره سيارتان.. لكنه لم ينفذ مشروعه ليتعلق بأي منهما ليصل إلى مقر عمله، لأن ذهنه تعطل عن العمل تماماً، وبدأ مشهد دلق الغسيل كأعذب لحن يجب أن تتفرغ له كل الحواس لتستلهم منه نبض الحياة وصخبها وحيويتها وجمالها. «شبان الألفية» يحولون «الحب» إلى معاكسات تدفعها الغريزة والابتزاز وصل إلى آخر الطريق، لكنه سرعان ما وجد نفسه مجدداً يعود أدراجه، وهو يتخيل مشهد صاحبة الماء وكأنها لا تزال تقف في مكانها، رغم أن المشهد قد مرّ كلمح بالبصر.. وحينما صبّحه أحدهم بالخير.. ردّ دون وعي متلعثماً: صباح الغسي ... ص ... صباح النور!.. عاد إلى البيت، وتخلص من بذلته العسكرية، ولبس أزهى ما لديه من الملابس، ولم ينس أن يتسلل إلى غرفة شقيقته ليلتقط قطعة من كريم (النيفيا)، يفركها بين يديه ليمسح بها وجهه الأشهب.. وليعود مع ذات الطريق دون أن يكون في نيته الذهاب إلى العمل الذي أسقطه من حسابه، ولم يعد يشعر بذلك الفزع الذي كان يتركه مديره (أبو نادر) بصلعته البيضاوية في نفسه.. وراح يتأمل ذلك الباب المجصص كمن يفتش عن خدش صغير، لكن لا أثر لصاحبة الغسيل. عاد إلى العمل بعد تسعة أيام من الغياب المتواصل بوجه نحيل، وعينان حمراوان فاستدعاه (أبو نادر)، طلب منه مبرراً لذلك الغياب.. لكنه لم يحرر جواباً، حتى المرض الذي كان يتذرع به أحياناً لم يجد في نفسه الرغبة أن يدّعيه.. رغم إلحاح (أبو نادر) في البحث له عن ذريعة رغم صرامته الظاهرية:(يا ابني قل مريض، وإلا راح تنفصل من شغلك؟ ).. لكنه ظل صامتاً وكأن على لسانه الطير، تأخر عن الالتحاق بورديته مرات ومرات، وفي الأخير وجد نفسه يحمل ورقة صغيرة أشبه ما تكون بورقة الطلاق من العمل، فاحت رائحة قصته فصادفت هوى في نفس (لطيفة) التي بدأ ينظم لها الشعر.. مع أنه ما كان قبلها يحفظ بيتاً واحداً على تمامه دون أن يخطىء، فعرضت له ذات مرّة بكامل حشمتها، فرآها ورأى القمر بعين قلبه التي اخترقت شيلتها، فاستنجد بأسطوانات سلامة العبد الله، التي اشتراها من متجر يبيع قطن الندف في ظاهره، وكل اسطوانات (نجدي فون) من تحت الطاولة، وظل ينادم سلامة طوال ليله: لو بغيت أضحك وأسولف مع الناس عيّت العبرة تفارق عيوني وأرسلت لك يا عزوتي كم مرسول وابطى جوابك يا حبيبي عليّه وارجوك جفت دموعي لا تبكيني يكفيني اللي حصل ما ستحمل زيادة حفظها كلها عن ظهر قلب، لأن طيف لطيفة كان حاضراً في كل بيت، وكأنه كُتب لها.. أو كتبه هو لها، فيما كان صوت سلامة المليء بالشجن الشفيف يُعبّر عمّا في وجدانه من لوعة الغرام، وألم الوجد. بيئة الجيل السابق منحتهم الحب الصادق دون الإساءة للآخر كل هذا.. وراشد لم يعد راشداً، لقد نال منه الغرام حتى بات شبحاً كهلال الشك، لكن لطيفة التي صدّت عدداً من العرسان من بينهم صاحب الجاه والمقام، بقيت تنتظر راشد الذي يُقدم رجلاً لخطبتها ويسحب الأخرى، خوفاً من أن يُضرب بعسيب النخل لعدم تكافؤ المنزلة الاجتماعية!. كانت قصة (راشد ولطيفة) على كل لسان.. لكن لا أحد كان يستطيع أن يطعن في سمو ذلك العشق ونبل مقاصده، والذي كان فيما يبدو يستمد عفته من إرث طويل لم يتلوث بعد.. منذ قيس وليلى وجميل وبثينة وكثير وعزة وسواهم من أساطير القيسيات العذرية.. حتى أن (لطيفة) ما كانت تُعرف إلا بعشيقة راشد، وراشد بعشيق لطيفة، دون أن تثير هذه الأوصاف حفيظة المجتمع.. الذي كان وقتها أكثر تسامحاً مع قصص العشق والغرام، ولا بُد أنه كان محقاً في ذلك.. لأنها كانت مجرد تعبير إنساني بمشاعر راقية عن أحاسيس لا سلطان للناس عليها!. العشق بلسم لقسوة الحياة تمثل هذه القصة ملمحاً من ملامح العشق في حياة "الأولين"، والتي تتحرك ضمن تلك العلاقة الطبيعية في حياة البشر.. دون أن تخدش الحياء العام أو تؤذي القيم والعادات والتقاليد، حيث تظل كحمائم من المشاعر المتبادلة تتبادل الأحاسيس، وتجدد دم الحياة لتبدو أكثر إشراقاً خلف صرامة أوقات الانتظار، وبناء الأحلام للمستقبل الذي يأتي وقد لا يأتي، وهي قصة من آلاف القصص التي تحدث هنا وهناك في الصحراء والبلدات وحيث وجد الإنسان، تتقد بعاطفة الحب التي ميّزت الإنسان عما سواه، وتتم تحت الشمس، ولم تختف في الدهاليز إلا لتختلس نظرة عابرة، تسدّ بها رمقها من ذلك الجوع العاطفي المتوقد نارا في الحنايا، لكنها أبداً ما اقتربت من المذموم لأن حصانات المجتمع، وطيب السمعة من الطرفين كانت دائماً أمتن من أن تُخترق بنزوة عابرة.. أو على الأقل في معظم الأحيان حتى لا نمنح تلك المجتمعات شهادة تزكية مجانية!. العشق بين جيلين.. لا بد أن سلوك المجتمعات يُشبه شكلها، فالمجتمع الذي يُسلم وجهه لعمليات التجميل والماكياج.. هو بمعنى أو بآخر مجتمع مزور، لذلك يبدو العشق السائد الآن كما لو أنه يأخذ نفس ملامح المجتمع.. فهو قد يبدأ من الأذن بسماعة هاتف مستمزجاً أكذوبة بشار بن برد الشهيرة، ومزاعمه من أن (الأذن تعشق قبل العين أحيانا)، وقد يبدأ من البلوتوث أو الجوال أو الإيميل والماسنجر، وتمارس فيه كل أنواع الخدع البصرية والسمعية، إلى أن يتحول العشيقان إلى ممثلين محترفين في مسرحية هزلية تحركها النزوات والطيش والعبث، والمواعيد التي كانت في زمن العشاق الأوائل تتم للظفر بمشاهدة (الزول):وما كلّ زول (ن) يعوض بزول.. ولا كل الأزوال مملوحة!. وهو غاية المنى.. أصبحت تتم في مطاعم الوجبات السريعة والأسواق، بعد أن انزلق غطاء الحياء أو كاد.. لتنتهي معظم تلك الأكاذيب إما بعملية ابتزاز رخيصة بالصور، والرسائل.. أو بما يسمى في عرف عشاق زمن الماكياج ب (اشحن لي)!. أرخص المجتمع تقاليده فرخصت أسمى وأنبل عواطفه، وتحولت إلى عبثيات مقيتة لا تنتهي إلا بأزمة، واستخدم تقنيات الاتصال الحديثة في هذه العواطف، فأصابها البرود كعاطفة، لكن الاشتعال ذهب إلى النزوة، لم يعد هنالك معنى للعشق سوى الغزل العابث الذي يبحث عن تعبئة الفراغات النفسية التي تركتها تعقيدات الحياة، لكن الضحية لم يكن العشق، وإنما القيم والأخلاق والأمن الاجتماعي الذي تمزق بفعل الباحثين وهما عن وجوه الفنانات والممثلات تحت غطاء الوجه أي وجه، أو الباحثات عن فتى الشاشة وخديعة فارس الأحلام في موديلات السيارات الفاخرة التي قد تكون إيجاراً لا ينتهي بالتمليك، وإنما بالمصادرة لعدم القدرة على السداد. لم يعد للعشق في الزمن الراهن معنى بعد أن أصبح وقوده الغرائز، أو الابتزاز في أحسن الأحوال.. وبعد أن تمّ اختطافه من علو مقاماته لتمريغه في تراب الأرض بالمعاكسات البليدة. لم يعد هو.. ذلك الذي كان قادراً على إيقاظ أرق الشعر وأعذبه من مناماته، ليقول للأسماع أجمل القصائد التي لا تختلف فيها معاني الوجد والرقة في أشجان الفراق عن أحلام وأماني اللقاء.. بعد أن صار يُباع أحيانا ويشترى بثمن بطاقة شحن، ويا ما أرخص العشق، وهو يدخل هذا المزاد الدنيء، العشق الذي كتب للحياة أحلى الملاحم العاطفية، وترك وراءه ضحايا الغرام مكفنين بعفتهم وإخلاصهم، قبل أن يتدنس ويتحوّل إلى مسخ يُثير توجسات الناس ومخاوفهم.