كشفت كارثة سيول جدة عن قصور في مجموعة من الأمور الحيوية ليس في مجال الإنشاءات والبنية التحتية فحسب بل حتى في أنظمة الرقابة والمتابعة وغيرها من التنظيمات المدنية ومن ضمنها تنظيم ومفاهيم العمل التطوعي، حيث كان يتردد أحيانا أن مجتمعنا تنقصه ثقافة التطوع وأن الناس يجهلون دوره في التنمية الشاملة للمجتمعات، وأن من يتطوع هم العاطلون عن العمل أو لديهم أوقات فراغ يمضونها في التطوع، فقد وجدنا عددا كبيرا من المواطنين والمواطنات من تخصصات مختلفة بعضهم يعمل في وظائف وآخرون من طلاب المدارس والجامعات وشباب وشابات غير عاملين يشاركون في جميع الأعمال المطلوبة منهم، وقامت الغرفة التجارية بتنسيق هذه الأعمال حسب الاحتياج والخدمات والتخصصات، كما تردد القول بأن القطاع الخاص يجهل مفهوم المسؤولية الاجتماعية أو مسؤولية الشركات تجاه مجتمعاتها أو يتجاهلها في حين رأينا الشركات والبنوك والمؤسسات المختلفة ساهمت في الإعانات بشكل كبير واتضح أن ما كان ينقصهم هو وجود تشريعات تنظم مثل هذا العمل بشكل دائم ومستمر. تهتم الغرف التجارية وبعض الجمعيات الخيرية والدفاع المدني بالعمل التطوعي، ولكن ذلك يتم وفق لوائح كل جهة قد تتقاطع أو تتعارض مع أنظمة جهات أخرى أو على الأقل لا تكفل للعمل التطوعي مسارا انسيابيا عاما وشموليا يغطي كافة المناطق والقطاعات، ولذلك كانت أمارات المناطق تقوم في حدود صلاحياتها وبالتنسيق مع الوزارات المعنية بسد الثغرات التي لا تغطيها الأنظمة المختلفة ومع ذلك تظل الحاجة إلى وجود نظام شامل وخاص بالعمل التطوعي ضرورية وملحة، وهو ما أكده الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز أمير المنطقة الشرقية في تدشينه لملتقى العمل التطوعي 2009 بقوله: "إن الأعمال التطوعية في السعودية تحتاج إلى مزيد من التنظيم لكي تسير بالشكل الصحيح" ونظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية لا يغطي العمل التطوعي بشكل دقيق وفعال، كما أن اللوائح المنظمة للعمل التطوعي الخيري الصادر عن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية قبل حوالي نصف قرن من الزمان تظل فضفاضة وعامة ولا تلبي الحاجة إلى نظام شامل يقنن العمل التطوعي المدني إلى جانب العمل التطوعي الحكومي كما هو الحال في الدفاع المدني، ويواكب النهضة الكبيرة التي تعيشها بلادنا ويستفيد في الوقت نفسه من كافة التجارب العالمية، وهذا لاينفي بطبيعة الحال وجود مناشط تطوعية منظمة بشكل جيد يعمل من خلالها المواطنون، ولكنها في الوقت نفسه لا تغني عن النظام الوطني الشامل. العمل التطوعي لدينا منحصر في مجالات محددة مثل بناء المساجد والتبرع بالدم وجماعات أصدقاء المرضى ومكافحة الإدمان وعلاج الحجاج والمعتمرين وكفالة اليتيم وغيرها، ولكنها لا تأخذ صفة الشمولية مما يؤدي أحيانا بسبب ذلك إلى اجتهادات خاطئة من بعض القائمين على الجمعيات أو استغلالها كما حدث في التبرعات التي استغلت من قبل البعض في تمويل الإرهاب رغم مقاصد المتبرعين الخيرة، كما أن عدم وجود تنظيم وطني شامل يعيق الخطوات المهمة التي يقوم بها بعض القضاة في توجيه أحكامهم حيال أنواع من القضايا من السجن والتعزير إلى الخدمة الاجتماعية، والذي يعيق تنفيذها هو عدم وجود تنظيم يكفل تطبيق هذه الأحكام، وبقاؤها على الوضع الحالي يؤدي إلى أمرين أحدهما إفشال هذه التجربة الرائعة لهؤلاء القضاة تجاه أحكامهم في القضايا التي تحول المذنب إلى مقدم خدمة للمجتمع بدلا من تحويله إلى خصم له، والأمر الآخر وهو الأخطر غرس فكرة أن العمل التطوعي هو عقوبة فقط أو وسيلة تختص ببعض الأثرياء أو العاطلين عن العمل أو مرتبط بالكوارث طالما كان مرهونا بمكان أو حدث معينين، فيتحول التطوع من قيمة إيجابية إنسانية ودينية واجتماعية دائمة إلى قيمة سالبة. هناك مشروع مقترح خاص بنظام التطوع ينتظره الناس منذ سنوات دخل في دوامة البيروقراطية على الرغم من أن المؤتمر السعودي الثاني للتطوع الذي انعقد قبل ثلاث سنوات تقريبا أكد على ضرورة المسارعة إلى إصدار النظام المقترح من قبل اللجنة المشكلة بالأمر السامي عام 1424ه والمرفوع من قبل اللجنة المشكلة بوزارة الداخلية وكافة الجهات المعنية عام 1426ه "ليكون أساسا لنظام التطوع في المملكة، ويمكن فيما بعد تطويره بما يتناسب مع ما ورد من رؤى ومقترحات حول تعديل بعض بنوده من خلال تطبيقه على أرض الواقع"، وقبل نصف عام أنهت لجنة الشؤون الاجتماعية والأسرة والشباب في مجلس الشورى مناقشة مشروع مقترح خاص بنظام التطوع مقدم من أحد أعضاء مجلس الشورى بعد أن استضافت 42 مسؤولا في القطاعات الحكومية والأهلية وبعض العاملين في مجال التطوع، ولكنها رأت بعد ذلك التريث لمزيد من الدراسة لوجود مشروع حكومي آخر معروض على هيئة الخبراء في مجلس الوزراء، فأصبحنا أمام مشروعين يسيران في خطين متوازيين، والتريث جاء لطلب إحالة المشروع الحكومي إلى مجلس الشورى للمقارنة بينهما أو دمجهما مع بعضهما، والله يعلم متى يظهر بعد ذلك للنور إن لم يظهر مشروع ثالث يتطلب مزيدا من التريث لمزيد من الدراسة. وإلى حين انتقال المشروع أو المشروعين من مرحلة التريث إلى مرحلة مشي السحابة لا ريث ولا عجل بادر الشباب إلى ممارسة أعمالهم التطوعية خارج إطار التنظيمات القائمة أو المنتظرة باللجوء إلى الشبكة العنكبوتية فتجد الرسائل والمجموعات البريدية والصفحات المخصصة في الشبكات الاجتماعية كالفيس بوك والنت لوق وماي سبيس زاخرة بهذه الخدمات كاحتياج مريض إلى نقل دم من فصيلة نادرة أو الدعاء لمريض بالشفاء أو لمتوفى بالرحمة أو أسرة محتاجة للمساعدة وتبرعات محسنين بالعلاج او المنح الدراسية أو الإرشاد إلى وظائف شاغرة أو البحث عن مفقودين أطفالا أو كبارا أو كشف حالات العنف ضد الأطفال والطلاب والنساء أو نداء إلى غواصين متطوعين للمشاركة في عمليات انتشال الضحايا في كارثة جدة، وتستقطب هذه المبادرات الإلكترونية شبابا من الجنسين ويتسرب بعضها إلى وسائل الإعلام وتلقى استجابة تكبر وتصغر بحسب كل حالة، وهذه المبادرات وإن ينقصها التنظيم فإنها لاتفتقر على الحماس وصدق النية والحس الإنساني والوطني.