يقال إن الإنسان هو المخلوق الوحيد القادر على البكاء ، ولكنه بالتأكيد المخلوق الوحيد القادر على فهم النكتة والتفاعل معها !! فالنكتة أو الطرفة من قبيل السهل الممتنع والتي لا يمكن لغير الذكي أو السوي فهمها والتفاعل معها ؛ فحين نتأملها بعمق نكتشف أنها تركيبة لغوية معقدة واستنباط شخصي بارع .. من الأقوال المشهورة لرائد الفلسفة الفرنسية ديكارت "أنا افكر إذاً أنا موجود".. وبتحوير بسيط أقول أنا : "أنا انكت إذاً أنا ذكي وناضج وقادر على التفاعل مع بقية البشر" ! فالنكته الجيدة رغم بساطتها الظاهرة خليط من تراكيب لغوية ونفسية وعقلية بارعة لا يمكن لغير البشر فهمها وادراك مغزاها ؛ وحين تتضرر الأجزاء المختصة في الدماغ (مثل الفص الأمامي) تصبح غير مفهومة بالنسبه للمصاب وأمر كهذا له دلالات نفسية وعضوية مهمة ويمكن اعتماده كتشخيص لحالات نفسية معينة .. والغريب أكثر امكانية مراقبة دماغك وأي الأجزاء فيه تعمل بشكل جيد باستعمال النكتة .. فبواسطة أجهزة المسح الخاصة اتضح أن الضحك يثير في أدمغتنا ثلاث مناطق مهمة .. فحين تضحك يضيء لديك الجزء الخاص بالتفكير (كونك فهمت المفارقة الحاصلة أمامك) ويضيء أيضا الجزء الخاص بالحركة والعضلات (لأن أعضاء جسدك اهتزت طربا) كما ينشط لديك الجزء الخاص بالعواطف المعقدة (كونك دخلت في منطقة فرح وسعادة وفي نفس الوقت حزن وشماته على بطل الموقف) .. وهذه المناطق الثلاث بالذات متطورة عن مثيلاتها لدى الحيوانات وتميز الجنس البشري عن بقية المخلوقات .. والنكتة الجيدة في الحقيقة اكثر بكثير من كونها جملة انشائية أو تلاعبا بالمصطلحات ؛ انها براعة في ابراز التناقضات، وفهم أبعاد المفردات، وابتكار المواقف في اقل قدر من الكلمات .. فمن اساسيات النكتة الجيدة ان تكون مفاجئة ومختصرة وتتضمن تركيبة ذكية. وحين يبتكر شخص ما نكتة فورية (اثناء الحديث مثلا) فهذا يعنى انه امتلك في لحظة وجيزة أربع صفات عقلية هي : الذكاء ؛ والادراك اللغوي؛ وسرعة البديهة ؛ وتوقع ردود فعل الحاضرين !! اما الطرف الآخر (المتلقي) فيجب ان يتحلي بقدر معقول من الذكاء والإدراك اللغوي لفهم آلية النكتة ؛ فالذكاء ضروري مثلا لاستنباط المفارقة ( وإلا غدا كالحمار الذي ضحك في اليوم التالي) في حين ان الإدراك اللغوي مهم لفهم مغزى التلاعب بالألفاظ ( فالجديد على اللغة لايفهم نكتة من قبيل : صعيدي جلس على قهوة أحرقته)! ... ولأن الذكاء صفة ملازمة للجنس البشري لم يكتشف حتى الآن مجتمع لا يضحك أو لا يجيد ابتكار النكتة والضحك عليها .. وانتشار نسبة النكتة في بلد ما تشير الى انتشار نسبة ما يعرف بالذكاء الاجتماعي بين أفراده ؛ فأول مالفت انتباهي مثلا (في اول زيارة لمصر في سن الطفولة) مهارة رجل الشارع في ابتكار النكتة والتفاعل معها والمزايدة عليها مما يدل على ارتفاع مستوى "الذكاء الاجتماعي العام" والانفتاح بين أفراد المجتمع المصري ... ... كل هذا يؤكد ضرورة وجود حد أدنى من الذكاء الانساني والنضج الاجتماعي والتفوق اللغوي لفهم مغزى "النكتة" والمواقف الطريفة (وهذا بالضبط ما يجعل منها ابتكارا بشريا خاصا) !! ... والآن ؛ ياليت تخبرني بما يثبت فهمك لهذا المقال ...