اعتدت على الفرح بالمطر.. وعلى التمازج معه بأريج الإحساس.. ومجالسة دفء السعادة وكانت أمطار جدة المتباعدة، والقليلة تضيء النشوة كلما حلت كهتان يغازل المحرومين. لكنها تبث الرعب وتسري بالخوف في قلوب من يعرفون أن جدة ليست على استعداد لاستقبال المطر، أو مصافحته. ومع ذلك كان صباح الأربعاء الماضي مختلفاً في كل شيء.. إجازة ومطر يطرق النوافد.. ويهمس للأرض منذ السادسة صباحاً.. تيقظت على صوت حبات المطر.. وظللت لوقت استمتع بها.. ومع استمرارها دب الخوف في داخلي لا أعرف لماذا؟ هل لأن الخوف اعتاد أن يعيش فينا... وبيننا؟ كل ما استطعت قوله.. الله يستر.. ويحمي عباده.. ودعوت دعاء نزول المطر. في النهار كنت قد استقبلت رسالة تهنئة بالعيد.. لكنها لم تكن رسالة تقليدية ،بل إحساس بالعيد من منطلق قلق على الآخر.. وخوف مقيم مما يجري، أو سيجري. تهنئة ليست سوداوية بقدر ما هي تتعامل مع الأشياء بتجرد... تستشعر ما يجري على جبهة الجنوب.. وتدعو للشهداء من المقاتلين هناك والبعيدين عن أسرهم... والمرابطين للحماية، والدفاع عن الوطن... وتبتهل بأن يحفظ الله هؤلاء.. ويعيد النازحين إلى ديارهم.. وأن الفرح سيظل متوقفاً حتى يعود كل هؤلاء.. ومعهم حجاج بيت الله الحرام الذين تستنفر كل القوى الأمنية من أجل راحتهم. شعرت بانقباض غريب.. قابله إحساس يحيي أبناء هذا الوطن الذين يسطرون هذه المشاعر الشفافة والجميلة، والتي تستشعر هموم هذا الوطن.. وتتعايش مع أحداثه.. وتشد على أيدي مقاتليه. عندما توقف المطر.. ودون أي معرفة مستفيضة للكارثة التي ستحل أحسست باكتئاب غريب.. ومخيف.. ولا أعرف لماذا بدأت التواصل بالهاتف مع من أعرفهم ممن يسكنون الجنوب... وامتداد الخط السريع. على العصر جاءت البشائر المأساوية وأولها احتجاز أخي وهو يغادر مقر عمله في البنك إلى منزله والذي لا يستغرق المشوار فيه 10 دقائق في الخط السريع لانغلاق طريق ولي العهد، وللاضطرار للالتفاف من كوبري الميناء إلى الخط السريع من الخامسة عصراً إلى الثانية ليلاً.. 9 ساعات لمشوار لا يحتمل 10 دقائق. كنت أتواصل معه بالهاتف.. وبدأت أعرف حجم الكارثة. أو وهو يصفها لي بمرارة شديدة وبدأت المحطات تعلن عن 10 وفيات.. لكن كل من كان على الخط السريع عرف أن العدد أكبر من ذلك بكثير. تسونامي الأربعاء يغزو جدة.. ويغزل معه حكايات ستبقى عشرات السنوات. أمطار قد تهطل في مناطق أخرى أكثر منها ولكن لا تترك كل هذه الآثار الكارثية. تحولت جدة في ساعات إلى مدينة منكوبة.. وعروس ترملت ليلة فرحها وهو عيد الأضحى. جرفت السيول أسراً كاملة، ومنازل بأهلها.. وغطت شوارع في مدينة ظلت مشكلتها الأزلية أن 70٪ من أحيائها بلا تصريف سيول.. وتفتقر إلى تصريف الصرف الصحي.. مدينة مزرية في تقديم خدماتها منذ أزمنة طويلة. مدينة مهددة بالأوبئة جراء بقاء مياه الأمطار لمدة طويلة. مدينة فشل أمناؤها الذين تعاقبوا عليها لسنوات في حل مشاكلها، وتوفير حياة آمنة وكريمة لمواطنيها. مدينة هي الوحيدة التي يجوب شوارعها نوعان من الوايتات دون مدن العالم، وايتات الصرف الصحي.. ووايتات المياه للشرب. مدينة تنقطع المياه عن أحيائها الجنوبية لأشهر.. فيضطرون لشراء مياه الشرب.. والمرابطة بالبطاقات الشخصية. مدينة تبنى فيها المنازل على مخططات مجرى سيول دون أن تتحرك أحاسيس من أعطوا هذه التراخيص للبناء.. وأدخلوا المياه والكهرباء إلى سكانها ليشيعوهم بعد سنوات إلى مثواهم الأخير.. وكل ما ارتكبوه أنهم بحثوا عن مسكن يؤويهم في تلك المناطق. من أعطى التراخيص لمن بنى على مجرى سيل سيلتهمه ذات يوم؟ ومن سمح بمخططات كهذه؟ ومن هم أصحابها؟ وهل لدينا قانون يحاسب بأثر رجعي ولسنوات مضت قد تمتد للثلاثين أو أكثر وهو عمر هذه المخططات؟ «يتبع بعد غد»