سحب الدخان الكثيفة التي أطلقها (جبل الدخان) خلال الأسبوعين المنصرمين في الأجواء السياسية للمنطقة، زاد من حرارة تفاعلاتها وسرعة تطوراتها على مختلف الصعد، وحجبت عن البعض إمكانية الرؤية الواضحة لأهداف وأبعاد ما يعتمل في محافظة صعدة اليمنية وعلى الحدود اليمنية - السعودية؛ حيث بدأت تلوح في الأفق عواصف عسكرية وسياسية ودبلوماسية منذرة بتطورات نوعية خطيرة لمجريات الصراع على الواقع اليمني والإقليمي، لاسيما وأن العديد من الأطراف الخارجية تحاول مد أذرعها من خلال هذا الستار الدخاني لتحول حادثة تسلل جماعة التخريب والإرهاب والتمرد الحوثية داخل الأراضي السعودية، إلى بركان متفجر يفوق قدرتنا على تصور كوارثه المحتملة إذا ما نجح هؤلاء في مسعاهم التدميري وتحقيق أجندتهم الإقليمية. هذه التحولات والتطورات المتسارعة تحتم علينا قراءة حادثة (جبل الدخان) برؤية سياسية عميقة للوقوف على الأسباب والدوافع والأهداف والأبعاد المرجوة من افتعال هذه الحادثة، والآليات والوسائل التي تم توظيفها واستثمارها، لتكون نقطة البداية لتحول نوعي في قوى وخصوصيات ومجريات الصراع بين الدولة اليمنية وجماعة التمرد والإرهاب الحوثية ومحاولة الانعطاف به نحو مسارات الأقلمة والتدويل وخلق معطيات جديدة تمهد لصراع إقليمي، وبالأصح تظهره على السطح وتخرجه من دائرة الحرب الإقليمية الباردة إلى صفيح المواجهة المباشرة الساخنة. العملية الإرهابية المسلحة التي نفذتها عصابة الإرهاب الحوثية ضد المواقع الأمنية السعودية في (جبل الدخان) وردود الفعل الطبيعية المشروعة من قبل الحكومة السعودية ومؤسستها الدفاعية والأمنية التي أدت واجباتها الوطنية في حماية سيادة وأمن واستقرار بلدها، - هذه الحادثة - مثل غيرها من الحوادث التي حصلت ويمكن أن تحصل في أي بلد آخر وتمر دون أن يلتفت إليها أو تعار أي اهتمام، إلا أن ما حصل على الحدود اليمنية - السعودية أثار قلقاً كبيراً عند معظم دول وشعوب المنطقة، ووجده البعض بداية تحول دراماتيكي لهذا الصراع، يتجاوز في تداعياته طرفيْ المواجهة وحدود محافظة صعدة، باتجاه خلق بؤرة توتر إقليمية في هذه المنطقة. حادثة (جبل الدخان) في دلالاتها السياسية والمذهبية والعسكرية لها بعدان مختلفان ومتلازمان، في بعدها الأول: تعبر عن حقيقة تمدد أحداث اليمن بكل تبعاتها وآثارها السلبية نحو إطارها الإقليمي، وهذه قضية طبيعية اشترطتها حقيقة الترابط الاجتماعي، الثقافي التاريخي والأمني بين اليمن وإطارها الخليجي وبالذات المملكة العربية السعودية التي كان وسيظل استقرارها وأمنها مرتبطا ارتباطاً عضوياً بأمن اليمن واستقراره. أما البعد الآخر: فيعبر عن طبيعة المنعطف الخطير الذي وصلت إليه امتدادات الأحداث ومؤشر احتمالاتها وتداعياتها المستقبلية السلبية والخطيرة على المنطقة برمتها، لاسيما وأن الوقائع والتطورات التي شهدتها الساحة خلال الأيام المنصرمة قد أكدت أن حادثة (جبل الدخان) تمثل أحد أشكال الإرهاصات العملية المباشرة لتنفيذ مخطط تآمري يستهدف أمن واستقرار المملكة وخلق أزمة إقليمية تسير سيناريوهاتها باتجاه خلق منطقة نفوذ اثني عشرية تهدد استقرار البلدين وتمثل ورقة ضغط إستراتيجية مؤثرة في خدمة أجندة خارجية لا تخفى على أحد،.. فالحادثة لم تكن عفوية أو وليدة الصدفة، بقدر ما كانت نقلة تكتيكية محسوبة في سياق الإستراتيجية السياسية والعسكرية لمن يقف وراء هذه الجماعة الإرهابية التي تحاول فرضها بشكل متدرج وفق رؤية تنفيذية وأجندة سياسية بعيدة المدى، وقد جاءت هذه النقلة التكتيكية قبل أوانها المحدد لها وقبل أن تستكمل كافة شروطها الذاتية وعواملها الموضوعية داخلياً وخارجياً، حيث حتمتها وعجلت بظهورها التطورات والمتغيرات الميدانية العسكرية المتسارعة التي استنفدت خلالها هذه الجماعة غالبية - إن لم تكن كافة - أوراقها في اللعبة السياسية والعسكرية مع الحكومة اليمنية، وضاقت أمامها سبل ووسائل ومجالات المناورات والمساومات السياسية، وباءت جميع محاولاتها بالفشل في استجداء السلام ووقف العمليات الحربية والتظاهر بقبول كافة شروط الحوار مع الحكومة اليمنية، التي ظل موقفها السياسي ، ونهجها العملي واضحين ومحددين في المضي بالحرب قدماً في تحقيق كافة أهدافها التي استخلصت من الوطن والشعب اليمني حتى الآن تضحيات جسيمة وخسائر مادية ضخمة في سبيل استئصال هذه الجماعة الإرهابية المتمردة وإخماد الفتنة بشكل كلي ونهائي. التطورات الميدانية وحالة الحصار القوي والمحكم المفروض على عصابة التمرد والإرهاب ونجاح الجيش في تغيير تكتيكاته وإستراتيجيته الحربية لتتواءم مع حرب العصابات، واعتماده فنون حرب جديدة يمكن ان تطلق عليها عمليات "نتف الريش" غير الاستنزاف المتنامي والمتواصل للقدرات والإمكانات العسكرية (البشرية، المادية، والمعنوية) للخصم الأمر الذي أوصله إلى يقين بحتمية هزيمة عصابة التمرد النهائية والمزرية التي باتت محكومة بإطار زمني محدد، وتبددت معه أحلام هذه الجماعة وحلفائها في الداخل والخارج في تحقيق إستراتيجيتهم الهادفة فرض وجودهم الشاذ كأمر واقع معترف به، وإقامة كيانهم السياسي، العسكري والعقائدي المستقل بشكل متدرج وعلى عدة مراحل وصولاً إلى تحويل محافظة صعدة إلى (دولة حوثية) داخل نسيج الوطن مدعومة ومسخرة لخدمة أجندة خارجية على حساب الأمن والاستقرار الإقليمي وعلى حساب مصالح شعوب ودول المنطقة. في مثل هكذا صراع مزمن، وبمثل هذا القدر من الخطورة والحساسية والتعقيد في جذوره الفكرية والعقائدية والتشابك والتداخل في قواه الاجتماعية المحرّكة والدافعة له أو المتمصلحة والمستفيدة منه من كل الأطراف.. في مثل هكذا صراع تتصادم وتتقاطع وتتداخل في مساراته المختلفة الكثير من الحسابات والمصالح والأهداف والتطلعات للعديد من القوى الداخلية والخارجية الفاعلة والمؤثرة فيه بشكل مباشر وغير مباشر، تكون جماعات التمرد والإرهاب وحلفاؤها، أكثر ضراوة واستماتة في الدفاع عن كيانها ووجودها ومصالحها، وتغدو أكثر خطورة على كل من حولها كلما دنت لحظة زوالها، وتحاول استجماع واستخدام كل أسلحتها وأوراقها العسكرية والسياسية المختلفة بهدف تحقيق تحول نوعي في مسار الأحداث والحرب باتجاهات جديدة تخدم أجندتها ومشاريعها في المراحل اللاحقة للصراع، وهذا ما لجأت إليه عناصر الإرهاب الحوثية عبر مغامرتها البائسة بالاعتداء على (جبل الدخان)، متخذة من جريمتها الإرهابية البشعة ضد المواطنين ورجال الأمن السعودي، نقطة انطلاق في استحداث عملية التحول التي ترجوها بإدخال المملكة العربية السعودية كطرف جديد ومباشر في الحرب، وإخراج الصراع الدائر بين الحكومة اليمنية وعناصر الإرهاب والتخريب الحوثية، ولو في مظهره السياسي والإعلامي والدبلوماسي من إطاره الداخلي وتحويله إلى صراع إقليمي تحت يافطات وشعارات مذهبية. ما من شك أن العمل العدائي الذي نفذته عصابة التمرد والإرهاب الحوثية على الأراضي السعودية مثّل حالة مخاض مبكرة لمشروع الجماعة الحوثية وإستراتيجيتها في المنطقة، وإذا كانت معطيات التطورات الميدانية العسكرية قد عجلت بكشف هذا المشروع التآمري، فإن هذا يحتم بالضرورة دراسة وتحليل أهداف وأبعاد هذا التطور الخطير وتحديد الآليات والوسائل الناجحة للتعامل معه وإجهاضه بشكل مبكر، واحتواء تبعاته السلبية المحتملة على أكثر من صعيد من منظور أهدافها وأبعادها وتداعياتها السلبية الخطيرة التي بدأت ملامحها تتكشف داخلياً وخارجياً على أكثر من صعيد ومن أبرزها: على الصعيد السياسي: يمكن اعتبار حادثة التسلل الحوثية شكلاً من أشكال الهروب نحو الأمام ومحاولة الصعود إلى الهاوية التي يتجه إليها البائس بحثاً عن خلاص يضمن له البقاء وتحقيق أكبر قدر من المكاسب، ومثل هكذا هروب مدروس، يكون في بعض الحالات ضرورياً من الناحية السياسية ودبلوماسية الصراع حيث البحث عن فرص أكبر للحل خارج خيارات الدولة اليمنية ونهجها العملي، والمقايضة والمساومات السياسية عبر أطراف جديدة أخرى، تكون أكثر واقعية وأقرب إلى التحقيق كلما كبرت مشكلة الصراع وتجاوزت حدودها الجغرافية والاجتماعية وأجندتها السياسية المحلية واجتذبت إليها عدداً من الأطراف الجديدة من خارج دائرتها المباشرة وتوالدت عنها إشكالات وأزمات جديدة تمس مصالح دول أخرى.. من هذا المنطلق سعت هذه عناصر الحوثي الإرهابية المتمردة ومن خلال مغامراتها العسكرية، التلمس عن قنوات وأدوات جديدة للخروج من المأزق الذي وجدت نفسها فيه، بالعمل على توسيع نطاق حربها ونقلها إلى خارج الحدود اليمنية واجتذاب أطراف أخرى إلى دائرة الصراع بعضها يكون مجبراً على ذلك –حالة المملكة العربية السعودية- والبعض الآخر يفتعل المبررات التي تستوجب تدخله بشكل مباشر ضمن أوسع نطاق-حالة إيران- نموذجاً لذلك. من هذه الزاوية يمكن قراءة مغامرة (جبل الدخان) باعتبارها وسيلة أرادت من خلالها هذه العناصر الإرهابية وحلفاؤها احتواء نجاحات الدولة اليمنية العسكرية والسياسية، التي جردتها كل الأوراق الممكنة للمقايضة التي تعطيها حافزاً للاستمرار السياسي والوصول إلى تسوية تجنبها حتمية الهزيمة العسكرية، وتفتح أمامها مجالات للمساومات السياسية التي أجادت عناصر الإرهاب الحوثية خلال المراحل المنصرمة اللعب بأوراقها المختلفة لصالح استمرارها وتعزيز وجودها واقتدارها العسكري.. ولهذا يمكن القول إن أحد أهم أهداف المغامرة الإرهابية الحوثية هو البحث عن آلية جديدة مواتية للحوار والمساومة عبر التأطير لهوية ومعطيات جديدة لهذا الصراع وتوسيع نطاقه إلى أقصى مدى ممكن والوصول به إلى ما يسمى بالنقطة الحرجة التي تتداخل وتتماهى فيها الحسابات والمواقف والمصالح الوطنية مع المواقف والحسابات والمصالح الخارجية. واستمرار الصراع بمعطياته الجديدة في مثل هذه الحالة من التداخل من شأنه أن يؤسس لمرحلة جديدة من الحرب يكون فيه الطرف الداخلي مجبراً على القبول والتعامل مع الدخيل الخارجي أياً كان تدخله سلبياً أو إيجابياً وقد أكدت الكثير من التجارب التاريخية أن الصراعات الداخلية عندما تبلغ هذه المرحلة الحرجة لا يمكن حلها إلا من خلال وساطة خارجية قوية وفاعلة على قاعدة التوافق المعقول والمقبول بين المصالح والأهداف لأطرافه الفاعلة القادرة على فرض خياراتها وتمتلك الكثير من أدوات وأوراق الضغط والابتزاز والمساومة في قضايا خارجية ليس لها علاقة بقضية الصراع الرئيسية والتي يدّعي فيه كل طرف إحراز النصر. المنطلقات العملية للتعامل مع مثل هكذا توجهات عملية خطيرة تتمثل قبل كل شيء في احتواء ومنع مختلف أشكال التدخلات الخارجية والحيلولة دون تمدد الصراع وإكسابه أبعاداً إقليمية مذهبية، والعمل على صياغة موقف إقليمي ومن ثمة عربي قوي واتخاذ تدابير دبلوماسية دولية وإجراءات عملية للوقوف أمام الأطماع والتدخلات الأجنبية وبالذات الإيرانية، واحتواء الصراع ضمن أضيق نطاق جغرافي وسياسي ممكن بحيث يجرد الخصم من أي أوراق ضغط خارجية أخرى يمكن توظيفها لمصالحه في هذا الصراع.. وتقديم مختلف أشكال الدعم الخليجي للدولة اليمنية ومساعدتها على التعجيل بالحسم العسكري، لأن إطالة أمد الصراع يأتي في صالح هذه الجماعة ويفتح المزيد من القنوات أمام التدخلات الخارجية. على الصعيد الإعلامي الأيديولوجي: يمكن الجزم بأن حادثة التسلل الحوثي مثلت خطوة إجرائية بسيطة في سياق توجه إعلامي أيديولوجي شامل مخطط تنفيذه من قبل قوى خارجية دفعت بهذه الجماعة لنقل حربها إلى داخل الحدود السعودية، وإيجاد ذريعة تستطيع من خلالها هذه القوى تبني خطاب إعلامي أيديولوجي مكرسٍ لخلط أوراق الصراع وإعادة ترتيبها وفق حسابات جديدة، يتولى هذا الخطاب الإعلامي -مسنوداً بدبلوماسية التدخل الهجومية- صناعة الكثير من معطياتها الجديدة من خلال ما يحدثه من آثار عميقة على الرأي العام وفي مكونات خريطة الصراع السياسية والعسكرية والاجتماعية وأطرافها الخارجية، التي تريد هذه الأطراف إعادة رسمها في المستقبل المنظور. وإذا كانت جماعة التمرد والإرهاب قد نجحت في استغلال جريمتها في (جبل الدخان) في إحداث ضجيج إعلامي كبير، أعادها إلى واجهة اهتمامات وسائل الإعلام والرأي العام، إلا أنها فشلت -حتى الآن- في توظيف هذا الضجيج الإعلامي لإخفاء هزائمها، ومساعدتها على الخروج من طوق الحصار السياسي الثقافي العقائدي المفروض عليها.. وفي اعتقادي أن رد الفعل الإعلامي السريع والآني -مهما كان مرتفعاً- لا يمثل الهدف الرئيس من افتعال الحادثة، ولكن الهدف الاستراتيجي يتمثل في خلق مبررات كافية ومقنعة لصراع مسلح ومباشر خارج الجغرافية اليمنية، وجعل الحادثة منطلقاً لخطاب إعلامي ودبلوماسي إيراني جديد يأتي في سياق البدائل الأكثر تطوراً وفاعلية في حربها الأيديولوجية والعقدية المذهبية الموجهة ضد دول وشعوب المنطقة.. هذا الخطاب موجه أولاً: إلى افتعال المزيد من الأزمات والتوترات وإذكاء فتيل صراعات داخلية وإقليمية جديدة في المنطقة على قاعدة الترويج المذهبي للصراعات الاجتماعية، والتلويح بدبلوماسية القوة والابتزاز السياسي والأمني المباشر، وثانياً: تسخير هذا الخطاب الإعلامي للتقليل من أهمية النجاحات الدبلوماسية للقيادة والحكومة اليمنية في فضح الدور الإيراني المشبوه ومحاولاته المتواصلة والخطيرة تقويض بنية الدولة اليمنية وزعزعة أمنها واستقرارها ووحدتها (الجغرافية، والاجتماعية والعقدية والسياسية)، واستهدافه المباشر للأمن والاستقرار الإقليمي والعربي، وكذلك السعي إلى احتواء الآثار السلبية التي خلفتها الدبلوماسية اليمنية والسعودية على السياسة والدور الإيراني في المنطقة بعد تعريتها أمام الرأي العام الدولي ومحاصرتها واستنفار العالم ضد ممارستها بعد أن نجحت هذه الدبلوماسية المشتركة (اليمنية- السعودية) في الكشف عن مبرر آخر مقنع يضاف إلى رصيد إيران العالمي المعاصر والتاريخي المتسم بالسلبية على صعيد العلاقات الدولية، ويؤكد حقيقة خطرها على الأمن الإقليمي والسلام الدولي، وأخيراً يمكن القول إن هذا الخطاب السياسي ، الدبلوماسي المضاد وإن تبنى ظاهرياً شعارات الدفاع عن حلفائه وأداته السياسية والعسكرية في المنطقة المتمثلة بعناصر التمرد والإرهاب الحوثية، إلا أنه في حقيقة الأمر يبحث عن فرض وجوده كطرف مباشر يمتلك الحق في التدخل في شؤون القضايا العربية الداخلية وتوظيفها في تحقيق بعض النجاحات والمكاسب التي تخدم أجندته ومصالحه السياسية والأمنية في المنطقة وفي هذا السياق جاءت المساومة الرخيصة بالقضية الحوثية التي بات يدرك حتمية هزيمتها وقرب نهايتها واحتراقها بيده كورقة سياسية مذهبية خاسرة. تصريحات وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي، ورئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني تمثل امتداداً سياسياً دبلوماسياً متوقعاً لحادثة (جبل الدخان) ، فالرد العسكري السياسي، الإعلامي والدبلوماسي السعودي القوي على هذا التدخل وما تميز به من طابع هجومي شامل واضح ومحدد لم تتوقعه القيادة الإيرانية التي جاء رد فعلها على لسان وزير الخارجية ورئيس البرلمان ووسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية متشنجاً ومتجاوزاً للكثير من معايير اللياقة والكياسة المعهودة في الدبلوماسية الإيرانية، أعقبتها وخلال ساعات قليلة تصريحات مغايرة للوزير الإيراني جاءت مفرداتها ومضامينها السياسية أخف حدة من سابقتها ومعبرة عن الشعور بالخطأ والاستعجال في ردود الأفعال الانفعالية التي لم تأخذ بمبدأ (التُقية) في المذهب الاثني عشري، ولكنها لا تعبر عن حقيقة متغيرات السياسة وعدم ثباتها، فالمواقف السياسية للدول قد تتغير، ولكن ليس بهذا الشكل من السهولة والسرعة التي يمكن قراءتها في تصريحات الوزير متكي، ولأن النيات الحسنة التي يمكن قراءتها في أي خطاب سياسي وإعلامي لا يمكن التيقن من صحتها وسلامتها إلا من خلال الوقائع الحياتية والممارسات العملية، وحتى ذلك الحين تظل قراءتنا لتصريحات القيادة الإيرانية وخطابها السياسي والإعلامي ومواقفها المعلنة من حادثة (جبل الدخان)، من خلال الوقائع وحقائق الممارسات العملية على الأرض: أولاً: باعتبارها أحد أشكال الضغط والابتزاز السياسي بهدف الوصول إلى مساومات سياسية تضمن لها تحقيق بعض المكاسب سيما بعد أن أصبح النظام الإيراني طرفاً مباشراً في صناعة الأزمات والإشكالات اليمنية وفي الصراع ضد الدولة اليمنية إلى جانب الجماعة الحوثية. أما القراءة الأخرى لهذه التصريحات فيمكن اعتبارها مقدمات سياسية تهيئ لدور وحضور إيراني جديد يدخل مسرح الصراع بأوراق لعب جديدة غير مكشوفة، وتبني دور يتجاوز المناورات التكتيكية والممارسات العملية المعهودة التي ظلت متخفية بعباءة غير رسمية، والانتقال إلى لعب دور استراتيجي رسمي مباشر بآليات ووسائل وأساليب وأوراق جديدة ليس أقلها الورقة المذهبية في العديد من الدول العربية، وهو ما يحتم بالضرورة على دول المنطقة اتخاذ الإجراءات الدبلوماسية والعملية اللازمة لاحتوائه، وتجنيب المنطقة المزيد من المضاعفات والأخطار غير المرغوبة، لاسيما في ظل وضوح الأهداف والتطلعات الإيرانية في المنطقة العربية.. فأي نجاح إيراني في تمكين عناصر الإرهاب والتمرد الحوثية من إطالة أمد الحرب ونقل المعركة بشكل مستمر إلى داخل الحدود السعودية، وإطالة أمد المواجهة مع المملكة، وتوسيع القاعدة الاجتماعية للصراع على الطرف الآخر من الحدود على أساس من الفرز المذهبي "السني- الشيعي" والاجتماعي القبلي -مثل هكذا نجاح- ستكون له عواقب وآثار سلبية خطيرة محفزة لتمدد خارطة الصراع "جغرافياً، سياسياً، اجتماعياً، مذهبياً" وسيقود إلى عملية فرز جديدة لقوى الصراع محلياً وإقليمياً وعربياً، على أسس جديدة تكسب الأحداث في منطقة صعدة أبعاداً إقليمية بشكل أكثر حدة ووضوحا، وتحويلها إلى ساحة صراع مفتوحة بين مختلف أطراف التدخل الخارجي وهو ما يزيد من تدهور الأوضاع الحياتية والمعيشية والأمنية للمجتمع اليمني، وفي ظل حدة الأطماع واتساع الأجندة الخاصة بكل طرف من أطراف التدخل يستحيل على الدولة اليمنية الحفاظ على مصالحها وتحقيق أهدافها النهائية بشكل ناجز يحول دون تجدد اشتعال الفتنة ودورات الصراع بشكل أكثر حدة ودموية. * رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية