لو أدت الممثلة الأمريكية ميريل ستريب دور القرد العاري، أو كانت مزيجا من آكلي لحوم البشر والمخلوق البشع الذي لم تكتمل صفاته بعد، لو كانت خنثى غير طبيعية تنطلق قاصدة نسف المنطق والنظام، أو .. أو لبقيتْ فنانة شديدة الآسر والافتتان، خارقة ولا أحد يعوضها أو يقف بجوارها، فيلم[جوليا جولي]، تقوم بدور جوليا تشايلد، الطاهية الأمريكية التي قدمت ولفترة عقد كامل في مرحلة السينيات من القرن الماضي برنامجها التلفزيوني الشهير، عن كل ما تعلمته طوال فترة مكوثها بباريس، في اصول الطهي اللذيذ والوصفات الأكثر شهرة، أول ما يطالعنا وجهها والكاميرا تتجول بينها وزوجها وهما أمام إحدى البنايات، يصعدان إلى الشقة التي سيعيشان فيها، وجه ميريل عارِ، صافَ بلا مكياج، تُركت في سنها الحقيقي، خمسينية ذات جمال حر طليق وبه سماحة نادرة، سيدة من ذلك الزمن الغابر، السينيات بمرحلتها الهذيانية التي لن تتكرر وفي جميع أطوار هذا القرن، زوجها يعمل في المخابرات الأمريكية، كانا في الصين الشعبية، والوقت هو بعد الحرب الثانية ثم انتقلا إلى فرنسا، الزوج ودود ومتعاطف مع ما تقدمه الزوجة، ربما جميع الجواسيس يبدون هكذا مع زوجاتهم، يساعدها بتحضير الطاولة فنراهما وسط أنواع الأغذية والأدوات والمقادير، يتذوق ويثني على أطباقها، تسير أمامنا عفوية مسرورة حين تخرج صباحا وتبدأ بالسلام على الباعة بلكنتها الفرنسية الأمريكية المحببة، كانت تبحث خارج تصريف نحو اللغة، عن الضوء الخاص الذي تخّزنه هذه الجنّية التي تدعى باريس. 2 في العام 1948 كانت جوليا مواطنة أمريكية تعيش مع زوجها بباريس وكانت تتوق أن يتحول حماسها للطهي إلى هدف ما، إلى وصفات تضع فيها بعضا من خبرتها، حماسها وقبل هذا نفّسها الذي لا يشبه نفّس صديقتها أو جارتها في كتاب، كانت تتبادل وما تحضره من طبخات ووصفات بلغة لا يجيدها إلا بعض البشر، أولئك الذين يمتلكون سرا يدخل فيه السخاء، النبل، المزاج الحلو والبساطة الراقية، تعدل في البهارات أو تزيد، تتفادى بعضها وتضاعف الأخرى. الأغذية واللسان البشري، اغراء دائم، مستديم موجود مستمر طالما هذا الفرد، والجموع، الملايين تريد الطعام، لكن ليس أي طعام، هذا الفيلم لا يتحدث عن جياع أفريقيا وأسيا والعالم، ذاك الجوع الأسطوري الذي نشاهده ونخجل من انفسنا، لكننا نواصل طعامنا ونحن نبصر عبر الشاشات ومن خلال أسفارنا ما ينتظر الإجراءات الضرورية واللازمة والعاجلة للحد منه، إذا لم يكن بالامكان القضاء عليه، جوليا تقدم لنا محاولة تبويب ثقافة الشراهة، وترتيب نزوة الأكل، وتعديل شهوة الذين لا يعرفون الحمية، فلا شيء يوقف الحلم باللقمة الطيبة، جوليا أرادت تغيير طريقة تذوق الطعام في الولاياتالمتحدة عبر التلاقح الحضاري بين مطبخين وثقافتين وأسلوبين وتذوقين، ما بين أوربا ذات العراقة، على الخصوص المطبخ الفرنسي، وذاك الأمريكي بمطبخه العادي غير المتفنن بثقافة التذوق. 3 بعد خمسين عاما تظهر على الشاشة جولي باول، قامت بالدور ايما ادامز . سيدة أمريكية في الثلاثين من عمرها، تشتغل سكرتيرة في مدينة نيويورك، متزوجة لكنها تفضل أمرا مغايرا يرج حياتها الزوجية والمهنية والاجتماعية الراكدة والفاترة لكي يعود لها التوهج الروحي والعاطفي والنفسي، فهي تشغف بصنع بعض أنواع من الأطعمة والمعجنات والحلويات، وكانت تلاقي بعض الاستحسان والثناء من زوجها اريك الذي يلتهم ثمار طبخاتها، والأصدقاء المقربين، فتقرر اعادة وتجديد في وصفات كتاب جوليا القديم الكلاسيكي المرجعي والسجالي. عدد وصفات ذلك الكتاب كانت وصلت إلى 524 طبخة. في السينيات لم نكن نملك ال NET ولا ال BLOG. فتقرر بتشجيع الزوج والأصدقاء القيام بتدوين يوميات مشروعها الطويل والأخاذ بعدما بدأت الردود والاعجاب يتضاعف، وبعدما كانت الفكرة مجرد اشباع نكهة تحت اللسان، أو تعلم آداب المائدة ووضع الأطباق تباعا من الحساء إلى اللحوم والخضار والاجبان، وفي الوقت المناسب مع الشراب الملائم لهذا الطبق أو ذاك، إلى مشروع كتاب جديد يحمل نكهة وقتنا الحاضر السريع والمتغير بسرعة خارقة. المخرجة والكاتبة والمنتجة لورا ايفرون مزجت ما بين زمنين وعصرين وقصتين حقيقيتين. رافقت امرأتين استثنائيتين من خلال سيرة الطعام الذي كان ومازال هو النوتة الموسيقية التي تدعنا جميعا نحن البشر وبدون استثناء، من جميع الأجناس والألوان، اللغات، الاعراق الملل، أصحاب الهواجس والوساوس، أو من ذوات الأرواح السخية المحبوبة، كلهم ينتظرون وجبة الطعام غير الخبيثة، ان تصل في وقتها ولذتها، سواء كانت على مائدة رئيس الجمهورية، أو على بساط ممدود في خيمة وسط الصحراء. ****** في بيت الجد الكبير الكائن في الاعظمية، كانت الخالة المدهشة سليمة خانم تنتمي لذاك الجيل الذي مازال تحت سقف بلعومي طعم أطباقها التي لا مثيل لها: كبة الحامض، والهريسة المحشوة باللحم المهروس والدارسين مرشوش فوقها تزينه بركة من الدهن الذهبي الحر، هذه كانت العيدية قبل حلول العيد حين نذهب ظهر يوم الجمعة، ولهاتنا تتنمل ثم يسيل لعابنا ونحن ننقض على تلك الأكلات التي لم أكن قادرة يوما لا على إعدادها، أو تذوقها مجددا. الجدة العظيمة وفيقة كانت تجيد بعض الأطباق الاحتفالية وفي بعض المواسم وهي نادرة في حياتنا، أما العمة فتوح، أطال الله عمرها فكانت تعرف جيدا صحني القاتل، واستطيع تناوله يوميا، وحدي، ووحدي من الأنانية الشديدة، وأحيانا أدعو بعض الأصدقاء؛ الباذنجان بكل تنويعاته، المقلي، المطبّق، المشوي، المسلوق، والنيىء إذا لزم الأمر !!. إذا ما تذكرت وعددت المراحل والأطوار التي مررت بها، أعرف أن الطهي واحد من أسباب الانفصال واللاانسجام في عموم حياتي العائلية والشخصية ،فكنت أتصور وقتذاك؛ أن المطبخ بجميع أركانه وأدواته، أجزائه وأبخرته هو مكان مبدد للخيال الشعري والإبداعي لصيرورة المرأة بالذات. حسنا، كم كانت هذه الأفكار تافهة، سخيفة ومستوردة من قراءات غير حكيمة أو راشدة أبداَ. منذ تلك الأعوام وأنا أتعلم كيف أعيد تربية تذوقي ومزاجي في الطهي، وفي المكان العاطفي اللطيف، المطبخ، كمن يقوم بالقاء القبض على تلك الذائقة المنفية عن مصادرها الأصلية في المتعة والأكل. أعرف بعضا من خصال صديقاتي من طريقتهن في إعداد وتناول الطعام، أعرف من تلك التي تطوي عمودها الفقري على الصحن الذي أمامها، بيدها الشوكة والسكين ووجهها في حالة انتصار، فاللذة تنتصر دائما، من تأكل/ يأكل بسرعة كأنه يخاف من كشف نقاط ضعفه، و .. و .. الأكل واحد من أسرار النفس البشرية، وإذا ما تتبعت أحدهم وهو يأكل فسوف تخترق أعماقه كاشفا الكثير من المنغصات والأسرار. أظن أنني وفي جميع رواياتي كان المطبخ والطهي لهما الإيقاع النفيس في عدد كبير من الصفحات، ولدى عموم الشخصيات، ومن الجنسين. فقد كانت الروائح تثير الحواس في محبة تدع الطعام ينضج على نار هناءة الصداقة ما بين الأصدقاء، وذاك الذي يخص رفقة الطبيعة، في حيثيات التلمظ والاستمتاع لجميع عطايا وهدايا الثمار بجميع أصنافها وتنويعاتها، وما يدخل في جوهر الثقافة من اعادة تأهيل الذات للتذوق والإعداد لكي لا تكون النتائج كارثة ذوقية وصحية. هذا فيلم لذيذ، بقي في الصالات فترة قصيرة جدا، وكان جمهور الحضور في الغالب من النساء فهو فيلم لا يعني بقصص الإثارة والغرام المميت أو الاكشن والمطاردة. هو فيلم يتحدث بصوت خفيض عن الطعام أحد لذائذ الدنيا، وواحد من أهم مصادر فرنسا السياحية، هو مطبخها العريق بجانب العطور، فجاءت الممثلة ميريل ستريب لباريس لحضور الافتتاح الرسمي وبدء العروض لهذا الموسم، وهو فيلم عائلي جدا، سحبني إلى أهلي وأخوتي، والاقرباء، فتصورت حالي وأنا بين جميع النساء ونحن سويا، بيدنا سلال التسوق ونحن في طريقنا لسوق [الوقفة] المجاور لبيتي كل يوم جمعة. فألمح وجوه بعض الصديقات الجميلات؛ سناء وإقبال وعائشة، فريال ونجاة وإنعام اللاتي لديهن خصلة هذا الإبداع الجميل، ومن الجائز أنا معهن، لم لا، فلدي أطباقي الخاصة، لكن صديقتي العراقية الأثيرة إلى نفسي، الرسامة والفنانة بشرى متي، أعظم طاهية تذوقت طهيها وكدت أبكي من اللذة، حتى أذا قامت بسلق البيض كان له طعم فردوسي. هاجرت إلى كندا مع عائلتها فاتصلت بها بعد مشاهدة الفيلم، وكنت أضحك وأهتف بالصوت العالي: اسمعي عزيزتي بشرى، طبخك ألذ من جميع ما قامت به ميريل ستريب في الفيلم وفي الدنيا من مأكولات واطباق. تضحك، وأظن يتورد خداها وهي تقول بصوت جميل: يالله مدي يدك ، بسم الله ...