منذ الخطة الخمسية الاولى في عام 1390ه (1970م) والتوجه السعودي نحو تخصيص الاقتصاد امر لا تخطئه العين. كان ذلك في وقت ينظر فيه العالم النامي لاقتصاد السوق على انه رجعية وعار، واحتاجت بريطانيا وباقي دول اوروبا والعالم الى عشرين سنة منذ ذلك التاريخ لكي تكتشف وتتبنى استراتيجية التخصيص قولاً وعملاً. ولكن بالرغم من هذا التوجه الواضح، المدعوم بسيل من ادبيات خطط التنمية المتتابعة والمؤتمرات والندوات والكتابات، فإنه لم يتم اتخاذ اجراءات تذكر على أرض الواقع لترجمة الاقوال الى افعال. واصبحت النتيجة مع الاسف الغوص شيئاً فشيئاً في مستنقع القطاع العام مع خروج دول العالم شرقاً وغرباً منه. فقد تم تأميم قطاع النفط والغاز، الذي يمثل عصب الاقتصاد الوطني، دون اي خطوات او مشاريع منظورة لخصخصته. وتملك الحكومة النسبة العظمى من مشاريع التعدين عبر شركة (معادن)، وتملك الطيران المدني، مطارات وطائرات، وكامل مشاريع المياه تحلية وتوزيعاً وصرفاً، وثمانون بالمائة من قطاع انتاج الكهرباء، وحوالي سبعين بالمائة من صناعة البتروكيماويات، ومائة بالمائة من اكبر البنوك الوطنية، وخمسين بالمائة من البنك الذي يليه في الحجم، وعدد من الفنادق، والشركات ذات المسؤولية المحدودة التي تمارس انشطة خدمية وانتاجية متنوعة، ونسب متفاوتة في معظم شركات المساهمة العامة، بل ان نسبة ملكية الحكومة في سوق الاسهم السعودية تتجاوز الخمسين بالمائة، واذا اضيف اليها ملكية الجهات شبه الحكومية كصندوقي التقاعد والتأمينات الاجتماعية فإن هذه النسبة تصل الى الثلاثة ارباع. هذا الاختلاف بين النظرية والتطبيق يعود - في رأيي - الى ان البيروقراطيين، الذين هم الخاسر الاكبر من التخصيص، نجحوا في حرف مسار التخصيص من مفهومه الفلسفي السياسي الذي يعني تخلي الحكومة عن المشاريع الاقتصادية ملكية وادارة، الى المفهوم الاكاديمي الذي يجعله يشمل اي مشاركة للقطاع الخاص في المشاريع الحكومية، مثل البيع الجزئي للمنشآت الحكومية او تأجيرها او التعاقد مع مقاولين لانشائها او ادارتها او التعاقد لانشائها وادارتها ثم اعادتها.. الخ، حتى ان اسناد انشاء مبنى حكومي الى مقاول خاص يعد من الناحية الاكاديمية نوعاً من التخصيص. في حين ان المقصود بالتخصيص، الذي يتردد صداه في ارجاء المعمورة منذ بداية الثمانينات من القرن الميلادي الماضي كوصفة علاجية لما واجهته الدول من مشاكل مالية واقتصادية، هو التخصيص بمفهومه الفلسفي الذي تبلور من خلال مساهمات عدد من الاقتصاديين الامريكيين، لعل اشهرهم عالم الاقتصاد الامريكي (ميلتون فرايدمان) الحائز على جائزة (نوبل في الاقتصاد) عام 976ام، ثم تبنته الدول والمؤسسات الدولية كمشروع اصلاح اقتصادي ناجح. وفقاً لهذا المفهوم فإن الدور الحقيقي للحكومة يجب ان يقتصر على وظائفها التقليدية، اي تحقيق الامن الداخلي والدفاع الخارجي والتشريع والقضاء، اضافة الى توفير التعليم الالزامي والحد الادنى من الرعاية والوقاية الصحية، اما الاعمال ذات الطبيعة الاقتصادية والانتاجية فيجب تركها للقطاع الخاص، وذلك لان الحكومة ليست مؤهلة بطبيعتها لادارة المشاريع الاقتصادية بكفاءة، مما يتسبب في هدر الثروات الوطنية. كما ان الحكومة بسيطرتها كلياً او جزئياً على وسائل الانتاج وبقدرتها في الوقت نفسه على اصدار القوانين وتنفيذها، سوف لن تسمح بقيام منافسة عادلة من قبل القطاع الخاص مع مشاريعها، لانها هي اللاعب والحكم في نفس الوقت، مما يغلق سبل الاستثمار امام المواطنين ويؤدي الى هجرة الاموال الى الخارج والاستنزاف التدريجي المستمر للثروة الوطنية. اضافة الى ذلك فإن ايجاد قناة لتدخل (البيروقراطيين) في ادارات الشركات يحرفها عن هدفها المتمثل في تعظيم الربح، ويسبغ عليها رداء الادارة الحكومية المحافظة، ويقضي على روح المبادرة والابتكار لديها. في حين ان خروج الدولة من القطاع الانتاجي يجعلها تتفرغ لاداء مهامها الحقيقية النبيلة بصورة اكثر كفاءة، ويؤدي في النهاية، وخلافاً للرؤية التقليدية، الى تعزيز المركز المالي للحكومة، وتسريع وتيرة النمو الاقتصادي، وخفض معدل البطالة، ورفع مستوى الجودة للسلع والخدمات المنتجة وتخفيض اسعارها، ومن ثم زيادة قدرتها التنافسية في ميدان سباق عالمي مفتوح. وهذه الفلسفة هي التي تفسر تعاظم الدين العام بنسبة طردية مع تضخم القطاع العام نظراً الى ان الميزانية العامة في واقع الحال انما تمول هذا القطاع في وقت يعتقد فيه خطأ انه يدعم العائدات. كما تفسر هذه الفلسفة ضعف القطاع الخاص في دول القطاع العام وهجرة اموالها للخارج. وبتأمل الواقع السعودي نجد ان المملكة من بين اكبر دول العالم قطاعاً عاماً، مما يفسر ظاهرة الحجم الهائلة للارصدة والاستثمارات السعودية الخاصة في الخارج، ويشرح الارتفاع النسبي للدين العام الى الناتج القومي، بالرغم من مبالغ الدخل الهائلة من النفط. وتوفر تجربة تخصيص قطاع الاتصالات في المملكة دليلاً حياً ملموساً على صحة تلك الاستنتاجات، ومدى انسجام النتائج العملية مع الدراسات النظرية في مجال التخصيص. فقد كان دخل الحكومة من هذا المرفق قبل تخصيصه يصنف على انه يأتي في المرتبة الثانية بعد النفط بمبلغ يقارب الاحد عشر مليار ريال سنوياً، ولكن في المقابل كان ما يخصص لهذا القطاع من مصاريف ضمن الميزانية العامة للدولة يقارب الأربعة عشر مليار ريال، اي بعجز صاف يزيد على المليارين في السنة. اما بعد التخصيص فقد تجاوز الدخل الحكومي من شركة الاتصادات العشرة مليارات ريال خلال العام المالي الحالي، شاملة نصيبها من ارباح الشركة، والرسوم الأخرى. في حين لم يخصص لهذا القطاع في ميزانية الحكومية مصاريف تذكر، لاسيما وان الهيئة العامة للاتصالات تعتمد مالياً على مواردها الذاتية. مما يعني ان العائد السنوي الصافي للحكومة من مرفق الهاتف اصبح بعد التخصيص يتجاوز العشرة مليارات ريال سنوياً مقابل عجز يزيد على المليارين قبل التخصيص. هذا بالإضافة الى الدخل الاضافي من الرخصة الثانية للجوال وشركة اتحاد اتصالات، التي تجاوزت الثلاثة عشر ملياراً حتى قبل ان تبدأ الشركة اعمالها. ومن ذلك يتضح مدى مساهمة التخصيص في تخفيف العبء المالي عن كاهل الحكومة وزيادة مواردها. وكدليل على دور التخصيص في تقليص نسبة البطالة خلافاً للرؤية السائدة، فلم تستغن شركة الاتصالات عن اي موظف من موظفي قطاع الاتصالات في الوزارة دون موافقته، وزادت من مميزاتهم الوظيفية، واستقطبت اعداداً اضافية من السعوديين، وانفقت مئات الملايين على تدريبهم وتحسين كفاءتهم. وستوظف شركة اتحاد اتصالات عدة آلاف من السعوديين. اما على صعيد تحسين مستوى الخدمة وتخفيض تكاليفها فقد كان الحصول على خط هاتف ثابت في المدن الرئيسية قبل التخصيص في غاية الصعوبة وكان يباع في السوق السوداء بأكثر من عشرة آلاف ريال، وكان السعر الرسمي للهاتف الجوال عشرة آلاف ريال، ورغم ذلك كان هناك عجز كبير في عدد الخطوط والارقام الهاتفية. هذا عدا عن الاجراءات الروتينية المعقدة الطويلة للحصول على تلك الخدمات. والآن اصبح الحصول على خط هاتف ثابت لا يحتاج الى اكثر من اتصال هاتفي بالشركة، ويتم تركيبه خلال ايام، ودون مقابل يذكر. وانخفض سعر الجوال الى الصفر، واصبح الحصول عليه في غاية اليسر، وتنوعت خدماته الى درجة كبيرة. كل ذلك بالرغم من ان تخصيص شركة الاتصالات اقتصر على نسبة 20٪ فقط منها. في حين ان المنافع الحقيقية للتخصيص تزيد بزيادة هذه النسبة، وتصل الى ذروتها اذا كان التخصيص كاملاً. كما ان عملية المنافسة، التي هي احد اهداف التخصيص، والتي تمثل الوقود المحرك للاقتصاد، لم تبدأ عملها بعد. ومن المتوقع ان يؤدي انشاء شركة (اتحاد اتصالات) الى التنافس الايجابي مع شركة الاتصالات، ومن ثم المزيد من التحسن النوعي في الخدمات والانخفاض في الاسعار. وبالقياس على نتائج تخصيص قطاع الاتصالات فإن تخصيص قطاع الطيران المدني على سبيل المثال سيؤدي الى النتائج نفسها: سيرتفع عن كاهل ميزانية الدولة مخصصات سنوية لهذا القطاع تتجاوز العشرين ملياراً، وستحقق الحكومة ايراداً صافياً عالياً من عوائد رسوم الترخيص ومن نصيبها في ارباح الشركات التي ستؤسس لهذا الغرض، وستوظف تلك الشركات الآلاف من السعوديين، وستوجد قناة كبيرة لاستثمار الاموال، وستتحسن الخدمات في المطارات الى درجة تتناسب والمستوى الحضاري للمملكة، وستتوافر الرحلات الداخلية بحيث لن يشتكي رجل اعمال مشهور مرة أخرى من احتجازه في مطار مدينة أبها. وأخيراً فإن المفهوم الفلسفي للتخصيص يعني خروج الحكومة بالكامل من القطاع الاقتصادي، بما في ذلك بيع نصيبها في شركات المساهمة، والتي تتجاوز في مجملها (50٪) من قيمتها السوقية، لأن ذلك سيحرر الحكومة من عبء مالي وعملي ثقيل، ويطلق عقال تلك الشركات ويريحها من تدخل البيروقراطيين لتتمكن من تسريع النمو وجذب الاستثمار واحداث المزيد من الوظائف. بالإضافة الى انه سيوفر للدولة موارد مالية تكفي لسداد جزء كبير من الدين العام. وأخيراً فإن كثيراً من الدول مرت بالمرحلة نفسها التي تعيشها المملكة الآن، بعد ان نجح بيروقراطيوها في امتصاص القرارات السياسية والتوصيات وتذويبها الدولية حول التخصيص عبر تبنيهم المفهوم الاكاديمي، وفي النهاية عادت الى المفهوم الفلسفي للتخصيص بعد تكبد ثمن باهظ. ان التخصيص لم يكن ترفاً ولم تعد جدواه محل منازعة، ولكنه فلسفة ورؤية وجرأة وقرار. ٭ مستشار قانوني - الرياض