..تنتشر الآن العلاقة المتوترة و الملتهبة أيضاً بين الناشر العربي و الكاتب العربي سواء كانا من داخل القُطْر أو خارجه.تنفلش فيها تجارب إخفاق وعرقلة كذلك اتهام وإهمال كما يمكن أن يضرب الحظ مع أحد عن آخر سواء كان بيضة ديك ينكفئ القلم بعدها أو كان دجاجة ذهبية كل صيحة تبيض الذهب، فالمشكلة هي ما بين الثلاثة المادة الخام(الأدب:شعراً أو سرداً)، و الناشر(مؤسسة تنتج أم تطبع)،و الوسيلة(تقنية تسوِّق أم تستودع)،ماذا يعني أن نرى الكثير من أدباء السعودية أو الكويت أو البحرين تنشر أعمالهم بين سوريا،لبنان و الأردن أو أن نرى أدباء من مصر لا ينشرون فيها بل في بيروت و كذلك آخرين من فلسطين و سوريا ينشرون فيها كما يمكن لبعض كتاب من المغارب العربية:ليبيا، تونس،الجزائر و المغرب ألا تتفور فرص نشر في بلدانهم ما جعل بعضاً يكتب و ينشر بغير العربية.. ..نزار قباني أحد الشعراء الذين أسسوا منشوراتهم في بيروت بالتعاون توزيعاً مع سهيل إدريس الذي يملك دار الآداب.أمَّا الروائية غادة السمان-سورية أيضاً-أنشأت منشوراتها الخاصة لتوزع مع دار الطليعة لمالكها وزوجها الراحل بشير الداعوق، وفي السرد أيضاً كان محمد شكري ينشر كتبه على حسابه الخاص ثم وجدت طريقها عبر وكيله إلى دار نشر لبنانية كالساقي(الخبز الحافي،الشطار ووجوه)فيما راحت كتب المجاميع القصصية، المذكرات و الدراسات إلى منشورات عربية تقطن ألمانيا كالجمل(السوق الداخلي، غواية الشحرور الأبيض، الخيمة و سواها) . يتهم شكري دور النشر العربية بأن القائمين عليها:"مصاصو دماء"، ولا أختلف معه سوى أنه يعظم من أنهم أكَّالون للمال و مطففون فيه،لكنني أذكر ناشراً من دور النشر التي لا تتجاوز الصف الثاني أو الثالث في مستوى دور النشر اللبنانية أن وجَّه إليَّ تلميحاً باستعداده لنشر أي كتاب من مؤلف سعودي رواية أو شعر نبطي أو شيء، و كان أحد الروائيين السعوديين وعده بعد عشاء خاص أن يجعل روايته الجديدة عنده، و أعتقد أنه خيبه فقد نشرها عند ناشره اللبناني الذي نشر أول عمل ثلاثيته إن كنتم تذكرون.. ..أعرف أيضاً أن أحداً(محدثي النعمة و مغتلمي الشهرة) ممن يريد أن تكون له عتبة في دائرة الأدب نشر مجاميع قصصية عدة وصل حد تكلفة إحداهن ما يكفي لستة كتب!. ..أذكر أن أحدهم صار ينشر خلال الألفية الجديدة دواوين من الحجم الكبير كما هي عادة الكبار مثل جوزف حرب و قبله عبد الله البردوني..،و حاشا أن يوازي أحدهما،فهو من المفترض إن كان له علاقة طبيعية مع جيله الشعري،فمن المفترض أن يكون أحد من سجلوا سبق النشر لمرحلة الحداثة في الشعر السعودي عبر شعر التفعيلة من صف:سعد الحميدين و مسافر- أحمد الصالح و علي الدميني..،فتخيلوا أنه استغل أحد الشعراء العرب الكبار بأن راسله خدعة ،فطبع رد شاعرنا الكبير على غلاف كتابه الجديد ذات العام! ، وأذكر أن مثيله شاعر من قطر عربي نشر ذات سنة نشر كتابي الشعري الثاني: "هشيم" أنه دفع لدار النشر ما قيمة كتابين على رأي المحاسب الذي مازحني بأنه لا داعي للدفع و أكتفي بالتوقيع!. ..إنني إن تذكرت مفهوم الأدب عند هؤلاء لن يتجاوز أن يكون مداساً ليذِلَّ أو إكسسواراً يحمل و يرمى مثل شماغ أو عقال أو مشلح أو عند العرب الآخرين مثل كرافة أو عصا أو حزام!. ..إنني إذا تجاوزت أدباء ماتوا كان قد تأخَّر نشر كتبهم لوفاة مثل يحيى الطاهر عبد الله أو الشاعر عبد الله باهيثم و آخرون دون حصر أو أن ظلوا يعيشون كتابة لا نشراً،لكنهم يعانون من فقد سلوك المعاملة الذي يذلل التعامل و دور النشر كذلك الإعلام العربي الذي يفغر فاه دون مشخال أو مصفاة. ..لعلي في كل ما مضى سوف أتساءل عن أسباب تردي صناعة الكتاب العربي(من تحضيره حتى تسويقه) كما أن ذلك التساؤل هو محاولة لوضع اليد على حركية الإبداع في الأدب العربي في أزمته التاريخية وعرقلاته التي أعرف أنها تتجاوز أعراف الإعلام و أنظمة النشر إلى سوطي السياسي و الديني،لكننا لا يمنع أن يكون النظام قاعدة أساسية تثبت حتى إن كانت في عالم متغير في دورة السياسي و الديني، و لا من غفْل الدور الاقتصادي الذي يحكم كل الأمور، فيمكن أن يكون محكوماً بها، و هي طريقة تفكير العقل الإبداعي العربي و سلوك المعاملة في أخلاق الناشر العربي و تخطيطه إضافة إلى قنوات الإعلام من جوانب متعددة تبدأ بالخبري-الدعائي(في قائمة منشورات أو صحيفة) حتى المقالي-الدراسي (في مجلة أو كتاب نقدي)،فالأسباب تتمركز في ثلاثة محاور -كما أرى-هي: 1-فقد الاستراتيجية و فوضى الرؤية(عند المبدع أو المبدعة). 2-سوء التخطيط و غموض الهدف(عند الناشر و الطابع). 3-امتهان وسائلية الكتاب (في التعليم و الإعلام). ..إنني إذا قلت:"فقد استراتيجية و فوضى رؤية" عند الكاتب أو الكاتبة،هي أن بعضاً ممن سيكونون واعدين أو واعدات،سيحرقون الخطوات الأدبية لهم/لهن بدل النشر الإعلامي المبدئي:صحفاً و مجلات ورقية أو ألكترونية، لوضع تأسيس و مواصلة اختبارية للنصوص شعرية(قصائد و ملاحم) و سردية (قصص وروايات)، فيتجهون إلى دور النشر مباشرة كمثل أولئك الذين تحدثنا عنهم(محدثو النعمة و مغتلمي الشهرة)، فيتعرقلون هؤلاء الواعدين و الواعدات بصنع مآسي كانوا سيستغنون عنها لو كانت طرقهم تترتب تهيئة وخطوة تلو أخرى بين نشر في مجلات معنية و متخصصة سواء ورقية أو ألكترونية، و التفكير في مؤسسات تقييمية كمثل مؤسسات حكومية أو مؤسسات الجوائز كونها فرصاً لا بأس من تجربتها بدل الصعود من أعلى نحو الأسفل هوياً لا انطلاقاً من أسفل إلى أعلى. أما سوء "التخطيط وغموض الهدف" فهو لدى الناشر أو الناشرة، فإذا نعرف أن دور نشر صنعت تاريخاً عريقاً اتصل بحقل معرفي كالعلوم و الثقافة أو إعلامي كالصحافة أو فني .،قام عليها أشخاص-تمثيلاً لا حصراً- لهم صلة بالتعليم و الثقافة معاً مثل منير البعلبكي (دار العلم للملايين)،سهيل إدريس(دار الآداب) أو الثقافة و الفن مثل مي غصوب(دار الساقي)و فخري كريم(دار المدى)،أو الصحافة و الثقافة لجبران تويني مؤسسها صحيفة و ناشرها داراً غسان تويني(النهار)، شركة رياض الريس بمجلتيها:الناقد و النقاد..أو ثمة قائمون و قائمات على دور نشر اتكأت على ترجمات كتب من اللغات الأوروبية (منتحلة و مقرصنة) أو أدب عربي هامشي لا يحمل تجربة أدبية أو وضوح رؤية.تكشف عن ذلك التخطيط السيء و الهدف الغامض ، و الزمن الدائري الذي تسير عليه حيث ينتهي دورها(أو عبثها)بنهاية القائم أو القائمة عليها!. ..أما المحور الثالث،والأخير أيضاً، هو"امتهان وسائلية الكتاب"في التعليم و الإعلام حيث ندرك أن دور الكتابة مهم جداً في علم و ثقافة الشعوب، فهو الذي أنجز خدمة أرشيفها الأدبي كما أسلفنا كذلك التعليمي و التعاملي في التجارة مبايعات و سجلات..،إن توفر صناعة الورق و الحبر سهلت من تداول شؤون الحياة مدونة و موثقة بحسب الحاجات و الضرورات، لكن هناك منها ما هو وقتي أو يومي الاستهلاك .أما سواها مما ينتظم في دائرة الحفظ و التوثيق أرشفةً بعد التدوين و التدقيق مراجعة كالأدب وما هو رسمي الطابع كالخطابات،لكن تنوع الوسائل التعاملية اليومية خاصة المدون منها، سواء في التعليم أو التجارة يتيح (إخفاض) الاتكاء على الورق،فما يمكن أن ينقل عبر البريد الألكتروني و الحفظ في الذاكرات الرقمية سوف يخفف من استهلاك الورق في المعاملات المالية، كما ما يمكن أن يفيد في عملية التعليم و التربية الوسائل المتعددة كالسبورات و الصحائف الجدرانية إضافة إلى المختبرات و الشاشات التلفزيونية ليخفف العبء على التلاميذ و التلميذات كما يصون من كرامة الكتاب الذي نرى ورقه يتطاير نهاية أي عام و يملأ سلال(أو سطول)المهملات في غرف الانتظار، الحمامات والأروقة أو الشوارع،الملاعب والسيارات. ربما نحتاج وقتاً لاستخدام الوسائل البديلة عن الورق في حقول التعليم و الإعلام حسب الإمكانيات المادية المتاحة التي ربما تجاوزها أهْلُونا الآشوريون يوم أن جمعوا تراثاً أدبياً شعروا بأهمية أن يبقى بعدهم في مكتبة آشور بانيبال كما فعل الكنعانيون في مكتبة(قرب معبد داجون) أبقوا إضافة إلى الأدب،قوائم وسجلات كثيرة،كمثل ما فعل الآسينيون في مخطوطات خبئت في كهوف قُمْران والرهبان الباخوميون في نجع حمادي كذلك فعل طلبة يوم ذهبوا إلى مكتبة بابل(كونها جامعة) و مكتبة الإسكندرية(جامعة كذلك). ..الآن،الحكاية التي سأنهي بها هذه المقالة هي وجه صارخ عندما نقابل(دون مقارنة )بين كاتب عربي شاب اشتغلت هموم النشر في رأسه بين جائزة ترفضه و إعلام لا يعيره بالاً و هامش نشر ألكتروني لا يعرفه سواه أن اقتص مالاً من راتب عمل ذاهباً به إلى دار نشر لا تعنيها قيم أدبية وأخلاقية فنشرت له وبعثت له عدداً مما طبع (عادة يحق للكاتب العربي الثلث!) في كرتون أنس وجوده عند الرقابة سنوات حتى حرق لفائضه على المستودع، وشاب عربي يغترب في بلد عربي آخر كي يعمل(أو يكْرُف)جمعاً للمال الذي يحقق وعود القرى وفتاة الجبل الفاتنة، فيعود إلى دياره يفرح به الأصدقاء ويلهو معهم في سهرات الجسد ومتع الحواس لأشهر يبدد المال..، فيذكر أن يعود قبل أن تنتهي فترة متاحة لتجديد إقامته في بلد الغربة فيودع أماني القرى وفتاة الجبل الثانية!. ..أردت فقط من سوق الحكايتين،أن أري كيف أن المرء العربي مشغول في كل ما يعلِّق حياته بالنهاية من الشيء لا البداية بالشيء..، فكأن السقوطات القادمة أدعى لهروبات أكثر..،لا يفلح معها سوى أن نكون العبيد أو المؤلَّفة قلوبهم تحت طلب تجَّار الجسد والكرامة في نخاسةٍ أو شِحاذةٍ..، فنهلِّل و نفْرَح بابنة الخلاص: الحرية، نعيماً في أحلامنا الغبيَّة وأيامنا السوداء..هَلِّلُويا..!.