حدث أن امتنع المترجم عن أداء مهمته في نقل الكلام بين المتحدثين حينما ظهر له أن مضمون الحديث يتعارض مع إيمانه الديني، فيما يسارع مترجم آخر إلى قبول المهمة رغبة في معرفة المجهول، والأمانة في نقل معنى الكلام دون أن يدخل نفسه طرفاً في مضمونه، ورد ذلك في رواية «رحلة بالداسار» لأمين معلوف، بما يكشف أن المترجم لا يندرج دائماً في فئة التابعين، وليس يفترض فيه أن يكون من المتبوعين. فبعد أن أبحر «بالداسار تومازور إمبرياكو» بطل الرواية على ظهر سفينة «القديس ديونيسيوس» من جنوى إلى طنجة، عبر البحر الأبيض المتوسط، قاصداً لندن للحصول على النسخة المفقودة من كتاب «الاسم المئة» للمازندراني، الذي أشيع أنه يمكن أن يحول دون نهاية العالم المتوقعة في سنة 1666م، التقى على ظهر المركب بسيد مهذار من البندقية اسمه «جيرولامو دورانزي» يعمل في البلاط الروسي لصالح القيصر في موسكو، وقد أرسل بمهمة قيصرية إلى لندن، وبرجل فارسي غامض يدعى «علي أصفهاني» يستعين بمترجم فرنسي، هو الأب «أنج». وما أن أرفأت سفينتهم في طنجة إلا ودعاهم إلى العشاء سيد برتغالي يدعى «سيباستاو ماغالهيس» في بيته. وكانت سهرة طويلة تخللها مزيد من الطعام والشراب، وفي جزء منها دار حديث شائك بين الفارسي والبندقي حول البابا، يحمل في معظمه وجوه اختلاف في المذاهب المسيحية خلال القرن السابع عشر. لم يرق ذلك المترجم الفرنسي الكاثوليكي الذي أظهر تعلّقا واضحاً في إيمانه الكنسي، فكان يتقاعس في أداء مهمته، وينشغل بالطعام دون الكلام، أو أنه لا يصغي إلى الحديث جيداً، فيطلب الإعادة بذريعة عدم التركيز. إلى ذلك كان ينقل باختصار حديثاً مستفيضاً «إما لأنه لم يحفظ كل ما قيل، أو لأن بعض الأمور التي قيلت لم ترق له». وخلال تلك السهرة الطويلة أبدى الفارسي اهتماماً شديداً بمعرفة ما كان يدور في موسكو من أحداث، ورغب في أن يتوسع محدثه البندقي في شرح عادات أهلها، وما لبث أن بدأ الفارسي يستفسر عن «المذاهب المختلفة» لدى الأرثوذكس والكاثوليك» فشرع دورانزي يكشف له ما كان بطريك موسكو يعيبه على البابا، والمواقف التي يراها غير صحيحة، وتستحق نوعاً من الازدراء، فكان مضمون الحديث مثار سخط الترجمان، فراح يوارب، ويهمل، ويتخطى بعض العبارات، ويغفل أخرى، ويدمدم متبرماً معبراً عن استياء مضمر. وحين صرّح دورانزي أن أهل موسكو، على غرار الإنجليز، يتندرون على بابا الكاثوليك إذ يطلقون على قداسته لقب «المسيح الدجال» اختنق الترجمان بغضبه، وخاطب البندقي، وشفتاه ترتعشان «من الأفضل أن تتعلم الفارسية لتقول هذا الكلام بنفسك، فلن ألوث فمي أو أذن الأمير به». لم يكن أحد المتحدثين يعرف بأن الفارسي أمير، إذ حافظ متنكراً على هويته الحقيقية طوال الرحلة، وبزلّة لسان فضح السر، وارتسم الشك حول المهمة التي يقوم بها أمير فارسي في عرض البحار. تكلم الأب «إنج بالفرنسية، تحت وطأة الغضب، والانفعال، ولكن الحاضرين جميعاً، فهموا كلمة «الأمير» التي كان ينبغي أن تظل مخفية. وعبثاً حاول المترجم الكاهن تصحيح زلة لسانه، لكن السرّ قد عرف، فعلّق بالداسار على هذه الحادثة، بقوله: «لا أدري إن كان صاحب القول المشهور «المترجم خائن» أراد الإشارة إلى مثل هذه الحادثة». لم يلتزم المترجم بشروط مهنته، فتمرد على دوره، وغلّب معتقده الديني على المهمة التي كلف بها، وبامتناعه عن أداء الواجب كما هو اقترف نوعين من الأخطاء: أهمل ترجمة رأي بطريك الأرثوذكس في بابا الكاثوليك، وفضح هوية الأمير المتنكر. ولم يلبث بالداسار أن مر بتجربة مماثلة بعد يومين، وكان يجيد العربية والإيطالية واليونانية والتركية واللاتينية، ويعرف شيئاً من الإنجليزية، إذ دعي هو والبندقي من طرف الفارسي إلى مقصورته الفخمة في السفينة، فأخبرهم بأن ترجمانه الأب «إنج» قد «نذر الصوم طوال هذا اليوم، والتزام الصمت مستغرقاً في التأمل والعبادة». لكن بالداسار رجّح أن الأب أنج لا يرغب في نقل «كلام كافر»، وأنه مازال ناقماً على ما حدث. فاضطلع هو بالترجمة بين الإيطالية والعربية. ولم يجد صعوبة في الانتقال بين اللغتين مترجماً كل ما يقوله المتحدثان، ولكن لم يسبق له أن قام بذلك على المائدة. وفي هذه الحال يصعب ترجمة كل كلمة تقال، حيث يقع تدافع بين الكلام والطعام، فما أن بدأت الجلسة حتى شعر بالإنهاك، فلم يستمتع بالطعام ولم يتمكن من الوفاء بشروط نقل الكلام، إلى ذلك فقد اضطر لمواجهة الموقف نفسه الذي واجهه الأب «أنج» قبل يومين. كان الأمير الفارسي كتوماً، حذراً، لا يفصح عمّا يريد، أما البندقي دورانزي، فمهذار، يفضي بالأسرار، ويخوض فيها، فطفق يتحدث عن خطط ملك فرنسا بشأن الحرب ضد السلطان العثماني، وكيف أن الشاه الفارسي تواطأ معه، إذ سيقوم بمشاغلة العثمانيين من الخلف، ليضرب الإفرنجة ضربتهم ضد السلطنة التي كانت جيوشها تقف عند أبواب «فيينا» يريد العالم المسيحي توحيد قوته ضد المسلمين، لكن التناحر السياسي والمذهبي ينخره، فالإنجليز ضد الهولنديين، وهؤلاء ضد الفرنسيين، والإيطاليون ممزقون، والأرثوذكس ضد الكاثوليك، وهؤلاء ضد البروتستانت. بالإجمال فقد ضرب التنازع ضربته في كل مكان. كان دورانزي يريد أن يصارح الأمير بصحة هذا الحلف بين ملك فرنسا وشاه إيران للقضاء على السلطنة العثمانية التي تواصل التهام القارة الأوروبية، لكن المترجم بالداسار يعتبر ذلك سراً لا يجوز البوح به، فكيف بالجهر، ومع ذلك فقد مضى دورانزي بحديثه الحساس، وبتصميم «يقترب من الفظاظة» على أن يقوم بالداسار بترجمته حرفياً للأمير، فامتثل نزولاً عن رغبة صديقه وإلحاحه. وكما توقع، فقد أحدثت الترجمة مفعولها السيئ، إذ رفض الأمير مواصلة الحديث، وادعى بالإرهاق والنعاس، في إشارة لا تخفى لضيوفه بالإنصراف من مقصورته. شعر بالداسار بالإهانة، إذ بقبوله مهمة الترجمة، وما حدث خلال العشاء، فقد أهين فخسر صديقين بضربة واحدة، لأنه استجاب لصلافة البندقي في ترجمة الكلام حرفياً، وأدّى ذلك إلى استياء الأمير.