غالبا ما تعجز عقولنا عن تحليل الأحداث لأكثر من خطوتين -أو ثلاث- تصبح الأمور بعدها في علم الغيب.. فحين تلعب مع صديقك الشطرنج أو البلوت قد تستطيع تخمين خطوته التالية ولكن يصعب عليك تخمين ما سيفعله في المرة الثانية أو الثالثة (خصوصا في ظل اعتمادهما على نتائج الحركة الأولى).. وبالمثل قد يستطيع أحدهم التنبؤ بالاتجاه التالي للبورصة -وربما الاتجاه الذي سيليه- ولكن يستحيل عليه التنبؤ لأبعد من مرحلة معينة نظرا لتداخل الاحتمالات واعتمادها على نتائج المراحل الأولى!! .. وهذا السلوك (الذي يستحيل حسابه أو التنبؤ به) يدعى "السلوك الفوضوي" ويمكن مشاهدته بشكل (أكثر تعقيدا) في مظاهر حياتية وطبيعية كثيرة .. إذ يستحيل مثلا التنبؤ بالاتجاه أو الشكل الذي سيسلكه الدخان في الهواء -أو متى سينفجر إطار السيارة وعلى أي مسافة - أو الجهة التي سيستقر عليها مربع الزهر أو وجه العملة - أو في أي اتجاه ستنطلق الحمامة أو تنحرف السمكة أو يذهب السحاب!! والغريب؛ أن ما نسميه السلوك الفوضوي أو المصادفي هو في الحقيقة أبعد ما يكون عن الفوضى أو المصادفة.. بل يمكن القول إن جهلنا بنتائج هذه السلوكيات هو ما يجعلنا نلتف حولها وننعتها بالصدفة أو الفوضى أو النتائج الاعتباطية. فحين تقع قطعة النقد -أو مربع الزهر- على وجه معين نفسرها كصدفة وضربة حظ، وحين تهبط بورصات العالم بلا مقدمات ندعوها فوضى واضطرابا اقتصاديا، وحين نقابل صديقا قديما في أحد المصاعد نبتسم ونقول "صدفة خير من ألف ميعاد".. وهذا التفسير الجاهز (والبعيد عن وجع الرأس) يستعمل حتى في المجالات العلمية الرصينة كعلم الأحياء والفلك والطب.. فحسب نظرية داروين مثلا ظهرت بوادر الحياة الأولى (بالصدفة) من خلال اتحاد خلايا كربونية في أحد المستنقعات الدافئة. واستعمال كلمة (صدفة) هنا يراد به تجاوز عقبة كبيرة وغير مفهومة بخصوص كيفية ظهور الحياة من العدم ووصولها لهذا التعقيد.. وبنفس الطريقة يتم تفسير ظهور الكون (من نقطة صغيرة منفجرة) اعتمادا على فكرة الصدفة التي تغلف قسما كبيرا من جهلنا وعجزنا عن فهم كيفية بدء الكون وتوسعه بهذا الشكل.. وحين يعجز الطبيب (وكافة التحاليل والفحوصات) عن كشف سبب الألم يضع شكوى المريض تحت بند "غير معروف" كإقرار مبطن بتداخل أسباب وعوامل واحتمالات كثيرة يصعب تحديدها!! وهكذا يمكن القول إن تعقيد السلوك الفوضوي يثبت -في المقابل- بساطة ومحدودية الأمور التي يمكن لعقولنا إدراكها.. فوصفنا لأي شيء على أنه "صدفة" أو "فوضى" لا يدل سوى على عجزنا وفشلنا في التنبؤ بالنتائج الصحيحة. وما أراه مرجحا أن السلوك الفوضوي سيبقى بمثابة جدار نقف أمامه عاجزين عن التنبؤ بتقلبات الطقس (على المدى البعيد) أو نتائج البورصة (بدقة تبتعد عن التخمين) أو تأثير التلوث الجوي على حرارة الكوكب (بعد عقدين أو ثلاثة)! .. لهذا السبب أرى شخصيا أن (الغيب) يقع دائما على بُعد ثلاث مراحل يدخل ما بعدها تحت خانة "الأمنيات" و"التخمين"!!