من الأمور التي تثير دهشة من يتابع الخطاب الديني السائد في مجتمعنا هي نزوعه لدن الحديث عن الاختلاط مهما كان نطاقه ، إلى التحذير منه لأنه مدعاة إلى وقوع الناس في الفساد وانتشار الرذيلة في أوساط المجتمع ! وهذا يثير قضيتين متناقضتين وعلى مستوى كبير من الأهمية : القضية الأولى ،القول بأننا مجتمع تسود فيه الفضيلة والتمسك بتعاليم الدين على نحو نتفوق فيه على غيرنا من دول العالم الإسلامي بل وعلى دول الجوار ، وإذا كان الأمر كذلك فلِمَ الخوف ؟ وممَ ؟ أليست تعاليم الدين التي تعلمناها منذ الصغر مترسخة ومتجذرة في أعماق كل الناس ؟ والقضية الثانية : أننا مجتمع فيه أفراد منفلتون لا يقيمون وزنا للدين ولا يلتزمون بأوامره ونواهيه ! أناس ينتظرون أن تتاح لهم فرص الاختلاط بالنساء ليقوموا بأسوأ التصرفات ! وإذا كان الأمر كذلك فإن المتابع لابدّ له من أن يتساءل ماذا فعلت المناهج الدينية التي درسها أولئك الناس منذ طفولتهم ؟ ولماذا بقيت مجرد معلومات حُشرت في الأذهان فلم تؤسس لمنهج أخلاقي يسيرون على هديه في حياتهم مما يشكل لهم حصانة تقيهم الزلل ؟! وأين يكمن الخلل ؟ أفي المناهج أم في طرق التدريس أم في القائمين عليها ؟ أسئلة ينبغي لمنتجي ذلك الخطاب البحث عن إجابة لها قبل المسارعة إلى الطعن في سلوك الناس ! لقد حُبس مجتمعنا فيما يتعلق بالقضايا العصرية الناشئة وما يفرضه نمط الدولة الحديثة في نوع من الإيديولوجيا الضيقة ، أنتجت خطابا أخلاقويا يهدف إلى تحديد نموذج إنساني مقنن ، وقالب مجتمعي أوحد ، بما يكشف عن سلطة لا يستمدها بالضرورة من الشرعي بقدر ما يستمدها من توظيف الشرعي لصالح الإيديولوجيا القائمة على التشكيك والتخويف ! إن أخطر أنواع الممارسات وأعمقها جذورا داخل المجتمعات هي تلك الأفكار التي تندس في ثنايا الخطاب الوعظي فيعظم تأثيرها على المتلقين ، وذلك كثير منه ما يمسّ العلاقة بين الجنسين في مجتمعنا ، بما يعبر عن عقلية الوصاية والسلطة التي تُستفز وتتورم لدن حدوث ما تعتقد أنه يهدد وجودها كسلطة مطلقة ، لذا فلا غرابة أن تشكلت العلاقة بين منتجي الخطاب والمجتمع في صورة أوامر ونواهٍ ، وكان على رأس ذلك تقسيم المجتمع إلى فضاءين عام وخاص ، فحُظر الاختلاط وأقصيت المرأة عن الفضاء العام ، ومُنعت من الاقتراب أو تجاوز محيطها ، وفُرض عليها نوع من اللباس الخاص والهيئة الخاصة التي جرى بموجبها تصنيف النساء في بعض الخطابات المتشددة إلى نساء في الجنة وأخرَ في النار ! إننا إذا اعتبرنا الجسد نظاما من العلامات الدالة والمنتجة للمعاني ، فإن حركات الجسد النسائي بصفته تلك ، تعدّ إنتاجا ثقافيا يخضع لطبيعة الثقافة التي يوجد فيها ، لذا فإن حجبه بعيداً عن أنظار الرجال إنما يدور حول نقطة رئيسة هي إرادة إقصائه عن الفضاء العام ؛ لأنه مصدر الفتنة وكل ما تقود إليه من آثام ، وهو في ذات الوقت عرضة لخطر النظر إليه والتحديق فيه ، مما يحيل الفضاء العام إلى محاضنَ للشرّ ومراتعَ تتراقص فيها الشياطين ! لقد دأب ذلك الخطاب المتشدد في رؤاه تلك على إغلاق الأبواب بحجج سهلة ، تحمل في طياتها استهانة بأخلاق الناس وما فطروا عليه من خير ، وعدم ثقة بالدين وما فيه من معانٍ تؤكد على صلاح المسلم ، وأن الخير فيه أكثر من الشرّ والصلاح غالب على الفساد ! أي أننا لا نجد في ذلك الخطاب أيّ مؤشر إلى الإيجابيات الموجودة في الدين المنعكسة على سلوك الناس الذين يتشكل منهم المجتمع رجالاً ونساءً ، تلك المعاني والإشارات التي لو ركزوا عليها لكانت كفيلة بتقدمنا ورقينا في هذا العصر الذي لم يعد فيه مكان إلا للطامحين الوثابين الذين يتنافسون في مضامير العلوم وتقنيات العصر والأخذ بأسباب التقدم والرقي ، ومن أولئك مسلمون مثلنا لم ينكفئوا إلى الماضي بل حافظوا على الدين واستلهموا العصر وما فيه من معطيات . إننا لا نكاد نجد في خطاب الخائفين من تطور المجتمع وما يمليه العصر من متغيرات ، سوى نبرات التحذير والخوف والتنبيه من الأخطار التي تهددنا والكوارث التي ستحدق بنا إن سمحنا بالاختلاط وتوسيع مجالات عمل المرأة وقيادتها للسيارة ، علاوة على ما يقوم به أولئك الأشرار الذين يريدون تغريب المجتمع وإفساده ! مما يؤكد أن الشكّ وعدم الثقة بأفراد المجتمع سمتان متأصلتان في ذلك الخطاب ، وهما عاملان مهمان يغذيان أيّ خطاب يرتجف من الجديد خشية زعزعة السائد . وكثيراً ما ينجح أصحاب ذلك الخطاب في إقفال الأبواب المتاحة لتفتح أبواب أخرى يصعب إغلاقها ، فعندما منعوا الخطاب الإعلامي المتلفز من معالجة قضايانا على النحو الذي ينسجم ومفاهيمنا السائدة ، وجعلوه محفوفا بكثير من المحاذير ، لجأ بعض مواطنينا إلى الإعلام المشبوه الذي استغل عجزنا فورّطهم وتاجر بهم ، وعندما عبأوا أذهان التلاميذ بمناهج اعتبروها الأفضل ، ظهر جيل متشدد سُهل انخراط بعضه في زمرة الإرهابيين ، وآخر جاهل منغلق على ذات متضخمة لا يرى سواها ! وعندما صادروا كل مظاهر الفرح في بلادنا ، برز شباب مخرّب فوضوي لا يعرف كيف يعبر عن فرحه إلا إذا كسّر ودمّر ، وعندما منعوا وسائل الترفيه من سينما ومسرح وغناء ، وسنوا قوانين صارمة على كل مظاهر الحياة الطبيعية من أسواق ومطاعم وحدائق وتجمعات أسرية ، اندفع مواطنونا كباراً وصغاراً ، أغنياءَ وفقراءَ ، أسراً وأفراداً ، في اتجاه الهجرة الموسمية ، وصار بعضهم عنواناً لعدم المسؤولية والتصرفات المشينة والمسيئة للوطن ، وعندما تشددوا في مطالبة النساء بإحكام الحجاب وتغطية الوجه ( وهي مسألة خلافية ) ، وبالغوا في ذلك حدّ تحديد شكل العباءة وكيفية لبسها ، أصبحت بعض فتياتنا في الخارج مثلاً في استعراض الأزياء الصارخة والمبالغة في وضع الزينة ! أوليس لكل فعل ردّ فعل مساوٍ له في القوة ومضادٌ له في الاتجاه ؟ إن الأسئلة التي تطرح هنا كثيرة ، منها : كيف يوصم المجتمع بالفساد إن لم يكن كله فمعظمه ؟ ولمصلحة من يجري تعميم هذه الفكرة ونشرها ؟ وهل يستسلم المجتمع للاتهام مصدقاً له ؟ أم يقاومه منطلقاً من تمسكه بالآداب والقيم الدينية التي يستقيها من كتاب الله وسنة نبيه الصحيحة ، وليس من المناهج التي لم تنجح سوى في الشحن والتلقين دون التركيز على التطبيق والممارسة الصحيحة من خلال القدوة والنموذج في المدرسة والمسجد . عندما يوقن الناس أن التشكيك في أخلاقهم هو السلاح الذي يُشهر في وجه أي جديد ، وعندما يرفضون تصويرهم بالذئاب التي تتربص بالنساء ، فذلك هو الوعي الحقيقي الذي يزعزع تلك النظرة القاصرة التي تصم الناس بما ليس فيهم بما يكشف عن زيف ذلك الادعاء ونفعيته ، ولذا ينبغي أن تسارع النخب إلى طرح خطاب مضاد يعزز الثقة في سلوك المواطنين وأخلاقهم ، ويعمل على تفكيك الأفكار المتزمتة والصور الذهنية الجاهزة التي تشكك في سلوك الأفراد ، وإفساح المجال للأشخاص ذوي الرؤى التنويرية لتفعيل أفكارهم من خلال الممارسات الحية ، للتأكيد على أنهم ليسوا في الصورة البشعة التي يجري حشرهم فيها ، لتكون ذريعة لمناهضة الجديد ثم لابدّ من إدماج مناهج التفكير النقدي والتحليلي في مناهج التعليم حتى نزرع بذور الشك والتساؤل في عقول الطلاب ، لنبني أساسا متينا يقوم بفلترة ما يُلقى عليهم ، حتى لا يكون كل ما يسمعونه مسلّمات غير قابلة للرد . إنه إن كان هدف هؤلاء هو تحقيق النقاء للمجتمع ونبذ ما يشوّهه ، فيجب عليهم إيجاد حلول عملية من واقع حياتنا المعاصرة وليس من ردهات الماضي؛ فسياسة المنع والتضييق لا تخلق مجتمعاً فاضلاً بقدر ما تنتج أفراداً مرتبكين وجِلين من مواجهة النساء في المستويات العامة ، ولعل هذا ما يفسر تورط بعض مواطنينا الصغار في قضايا سلوكية لدن احتكاكهم بالنساء في الخارج نتيجة جهلهم بأبسط أساليب التعامل المنضبط معهن . ليس ثمة أسوأ ممن يصور الناس بصور سيئة في الوقت الذي يقول فيه إنه يحمي أخلاقهم ويدافع عن ثوابتهم ، ليقيم مجتمع الفضيلة ! مع وجود منظومة من القيم الدينية والمجتمعية التي يمكن أن يُربى عليها الأفراد ليحافظوا على النسق الأخلاقي للمجتمع دون اللجوء إلى اتهامه .