لعل أبرز نقطة ستتضح في ختام هذا المقال أننا، في عالمنا العربي والإسلامي، نعيش أزمة خاصة لا يشاركنا فيها أحد من أمم العالم المعاصر، أزمة تتمثل في أن ماضينا في التعامل مع قيم: حرية التفكير والعلاقة مع الآخر غير المسلم، وكذلك التعامل مع الأفكار"العلمية" والفلسفية الوافدة، خير من حاضرنا. وبالاستقراء، فإن حاضرنا، ما لم تحدث معجزة فكرية نقدية تخلخل بنية العقل العربي الإسلامي المعاصر، سيكون خيراً من مستقبلنا الذي سيكون محاطاً بسيطرة الأصوليات المتشددة وثقافة الخرافة وخرافة الطرقية عليه. ففي الوقت الذي رأينا فيه، كما في الجزء الأول من هذا المقال، كيف أن سلفنا الأقربين كانوا أكثر حداثة وأقل حساسية فيما يتعلق بالنظريات العلمية المعاصرة، بدعوتهم، أعني أولئك الأسلاف، إلى استخدام سلاح التأويل عندما يتعارض (مفهوم) النظريات العلمية الحديثة مع ظواهر بعض النصوص، نجد أن التعارض بين النظريات "العلمية" والفلسفية، وبين ما تفيده ظواهر بعض النصوص الدينية في زمن سلفنا الأبعدين، لا من ناحية مفهومها فحسب، بل حتى من ناحية منطوقها الصريح، لم يكن ليشكل معضلة أو مانعاً لهم من أن يوردوها، أعني تلك النظريات، جنباً إلى جنب مع معطيات النصوص، باعتبار أن لها، (=النظريات العلمية والفلسفية)، مكانتها داخل السياق الحضاري الذي أنتجها، بعيداً عن هاجس التوفيق بين مضامينها وبين مضامين النصوص الدينية.بين أيدينا نصان لأحد أبرز أسلافنا توضحان كيف أن "العلم" إذ ذاك، وكل النظريات والفلسفات الوافدة المخالفة حتى لظاهر القرآن، كانت تناقش ويُتعايش معها بشكل طبيعي وهادئ. وآحاد السلف المعني هنا هو الإمام فخر الدين الرازي:(543 606ه)، الذي كان "عالماً" إلى جانب كونه متكلماً وفقيهاً ومفسرا للقرآن. والنصان المستصحبان هنا ينصبان على مناقشة قضيتين رئيسيتين في الفكر الديني الإسلامي. أولاهما: ما يتعلق بوجود الشياطين وماهية الوسوسة التي يلقونها في صدور بني آدم، وهي مسألة، كما نعرف، حسمها القرآن بالإثبات. فقد ناقش الرازي هذه المسألة بذكر أقوال كل من النافين والمثبتين لها كلاً على حدة. لكنه حين عرض أقوال النافين، تعرض للمسألة من زاوية علمية وفلسفية ومنطقية بحتة. ويهمنا هنا إيراد بسطة للأدلة النافية. فمن الناحية العلمية والفلسفية قال:"إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا: ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية(= الإنسانية) هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليهما، وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذاً أو مؤلما. وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى ابتداءً، أو بواسطة مراتب شأن كل واحدة منها في استلزام ما بعدها على الوجه الذي قررناه. وثبت أن كل واحد من هذه المراتب تَرتَّب على ما قبله، أو لزم لزوماً ذاتياً واجبا. فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائماً مال طبعه إليه، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة. فلو قدرنا شيطاناً من الخارج:( =افترضنا وجود الشيطان)، وفرضنا أنه حصلت منه وسوسة، كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر، لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة، حصل الفعل، سواءً حصل هذا الشيطان(=وُجد) أو لم يحصل. وإن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل، سواءً حصل هذا الشيطان أو لم يحصل. فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل"!. أما من الناحية المنطقية، فسنجد أن الرازي يلجأ، عند مواجهته للنصوص التي يؤكد ظاهرها وجود الشياطين ووساوسهم، كما في الحديثين المنسوبين للنبي صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الجوع، ألا فضيقوا مجاريه بالجوع". وكذلك:"لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات"، إلى سلاح التأويل بقوله "هذه الأخبار لا بد من تأويلها لأنه يمتنع حملها على ظواهرها لعدة أسباب، منها: أنه يلزم منه، إما اتساع تلك المجاري، أو تداخل تلك الأجسام. ومنها أن الشيطان مخلوق من نار، وبالتالي فلو دخل في البدن لصار كأنه أنفذ النار إلى داخل البدن، ومعلوم أنه الإنسان لا يحس بذلك:(=حرارة النار). ثم إنهم(=الشياطين) يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق، ونحن نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثراً ولا فائدة. وبالجملة، فلا نرى من عداوتهم ولا من صداقتهم نفعا". والجدير بالذكر أن هذه الآراء، باستثناء ما ورد من تدخل الشيطان، وما ورد في المسألة من نصوص قرآنية أو حديثية، مأخوذة، كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه: (فهم القرآن الكريم)، من شروح الفارابي وابن سينا على نظرية النفس عند كل من أفلاطون وأرسطو. وبالتالي فالأساس "العلمي" لما ذكره الرازي هنا، وفقاً للجابري أيضا، هوعلم النفس الأرسطي. ومن المعلوم أن كلاً من العلم والفلسفة اليونانيين كانا يشكلان ما يطلق عليه إذ ذاك:"علوم الأوائل" الوافدة على الثقافة العربية. وكان العلماء والمؤلفون والمفسرون إذ ذاك في تلك العصور الكلاسيكية العربية،ومصطلح: الكلاسيكية هنا من نحت الدكتور محمد أركون، يغرفون منها ويناقشون مضامينها دون أدنى حساسية من مخالفتها لما ورد في القرآن الكريم، أولما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك، نجد هنا كيف أن الرازي لا يتحرج في أن يورد، على خلفية تفسيره لآيات قرآنية، رأياً ينفي مسألة حسمت تلك الآيات ثبوتها حسماً يستلزم،على رأي معاصرينا، الإيمان بها كما وردت، مع تكفير من يقول بغير ذلك حتما!. بل إنه لا يكتفي بإيراد ذلك الرأي النافي فقط، بل يعضده بالآراء العلمية والفلسفية والمنطقية التي تؤيده. ولو أن الرازي وجد في زمننا هذا لطالته، حتماً، فتاوى الردة عن الإسلام ومعها مطالبة"الإمام" باستتابته أو قتله مرتدا!. ثانيتهما: ما يتعلق بمسألة وجود الجن، فقد استعرض الرازي أيضاً، في تفسيره:( مفاتيح الغيب)، عند تفسيره لسورة الجن عدة آراء مختلفة في المسألة، منها ما ينفي وجود الجن بتاتا. ومما قاله في المسألة ما يلي:" اختلف الناس قديما وحديثا في ثبوت الجن ونفيه. فالنقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره، وذلك لأن أبا علي بن سينا قال في رسالته في حدود الأشياء:( الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة)،ثم قال، يعني ابن سينا،:( وهذا شرح للاسم فقط). فقوله: وهذا شرح للاسم، يدل على أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ فقط، وليس لهذه الحقيقة (= الجن) وجود في الخارج!". ومرة أخرى، نجد أنفسنا أمام مفسر سلفي من أهل السنة والجماعة، يُضمِّن تفسيره لنص قرآني حاسم في مسألة وجود الجن، جملة من الآراء"الفلسفية" التي تنفي وجودهم (=الجن)، من الأساس!. والخلاصة أن أسلافنا الأباعد كانوا يتعاملون مع "علوم الأوائل" بما تحتويه من نظريات"علمية" وفلسفية بدون عُقد أو إحساس بالذنب نتيجة مخالفتها لظواهر بعض النصوص القرآنية والحديثية. كما كانوا يناقشون مضامينها باستصحاب الآراء العلمية والفلسفية والمنطقية التي يوفرها عصرهم، بعيداً عن استصحاب مضمون النصوص الدينية الإسلامية التي كانت تخالف، في منطوقها على الأقل، ما كانت توجبه تلك النظريات. وهو سلوك ثقافي كان سائداً في تلك العصور التي تمثل أرقى ما وصلت إليه الحضارة العربية الإسلامية، لدرجة أن المثقفين من الطوائف الدينية المختلفة، خاصة من اليهود والمسيحيين والمسلمين، كانوا يعقدون مجالس للمناظرات والمناقشات العلمية، خاصة في الأندلس، فيشترط بعضهم على بعض عدم الاستشهاد بالنصوص الدينية، والاكتفاء بالمحاجات العلمية والفلسفية والمنطقية فقط، فيقبل بعضهم من بعض، دون أن تثير مثل تلك الاشتراطات أي ردود فعل سلبية، لا من المثقفين ولا من العامة!. والسؤال العاصف هنا هو: لو أن أحداً منا تجرأ، في حاضرنا التعيس، على مناقشة رأي علمي مخالف لما تثبته النصوص الدينية، ما ذا سيكون مصيره؟. الأكيد أنه إن سلم من الاغتيال الحسي على أيدي من يعتبرون أنفسهم حراس"العقيدة"، فلن يسلم من الاغتيال المعنوي المتمثل بفتاوى التكفير والردة المهدرة لدمه. بل إن أجواءنا "العلمية" الموغلة في تقليديتها ورهابها لا تسمح حتى بما هو دون ذلك بكثير!، هل يجرؤ، مثلاً، أي عضو هيئة تدريس في أي من كليات الشريعة أو أصول الدين، أو أي مدرس دين في المراحل التي تسبق المرحلة الجامعية أن يستشهد برأي للفارابي أو لابن سينا أو لابن رشد، ناهيك عن أن يستشهد بآراء فلاسفة أو علماء غير مسلمين؟. بل هل يجرؤ أحد مدرسي العلوم الطبيعية أو العلمية على مثل تلك الاستشهادات، في ظل سيطرة ثقافة أسلمة العلوم؟. أكاد أجزم أن مثل هذه الاستشهادات، ناهيك عن المناقشات، ليست من (اللامفكر) فيه لدينا فحسب، بل إنها من المستحيل التفكير فيه!.آخر نسخ هذا التردي الحضاري الملازم لحاضرنا ما نشرته صحيفة الوطن( 22/10/2009م) من" أن أستاذاً مصرياً لأمراض القلب يعمل في المملكة قدم اعتذاراً علنياً لنحو خمسة آلاف خبير ومتخصص احتشدوا في براغ لسماع محاضرته ضمن فعاليات المؤتمر الأوروبي الدولي لأمراض القلب، والذي اختتم أعماله في العاصمة التشيكية "براغ" الأسبوع الماضي. بحجة بأن رئيس ندوة النقاش هو الطبيب الإسرائيلي (يوسف روزن مان)!". وهذا المؤتمر مناسبة علمية بحتة لا علاقة له، لا بالدين ولا بالسياسة. لكنها أفكار العصور الوسطى التي لا تزال تمسك بخيوط أفكارنا حتى لا "تنزلق" إلى "أتون" قيم العصر الحديث، عصر الديمقراطية والحرية الفكرية والليبرالية الإنسانية!