أفادت الإحصاءات الأمريكية ، التي نشرت في بداية الأسبوع، إلى أن عجز الميزانية في نهاية سبتمبر الماضي قد ارتفع إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي. أي ثلاثة أضعاف ما كان عليه خلال إحصاءات الفترة نفسها من العام الماضي. وهذه أعلى نسبة للعجز منذ عام 1945. فما الأسباب التي أدت إلى هذا الارتفاع الحاد وما الأثر الذي سوف ينعكس على اقتصادنا جراء ذلك؟ إن ارتفاع عجز الميزانية إلى أعلى مستوى له منذ الحرب العالمية الثانية يعود، كما يبدو لي، إلى أمرين رئيسيين. أولهما هو تراجع العائدات وعلى رأسها عائدات الضرائب التي لم تتعد 2.10 ترليون دولار. أي بانخفاض نسبته 16.6% مقارنة مع نفس الفترة من العام السابق. وهذا ناتج عن إفلاس العديد من الشركات وفقدان آلاف الأمريكيين لوظائفهم جراء الكساد وارتفاع معدل البطالة إلى ما يقارب 10% . وهذه نسبة مرتفعة جداً حسب المعايير الأمريكية. أما الأمر الثاني فيعود إلى النشاط المحموم الذي تبذله الإدارة الأمريكية لمواجهة الأزمة المالية الاقتصادية مما ساهم في زيادة الإنفاق الحكومي الأمريكي بنسبة 18% تقريباً. وهكذا فإن الإدارة الأمريكية سوف تكون أمام خيارات كلها صعبة لمعالجة عجز الميزانية. فهي إن لجأت إلى سد العجز من خلال الاقتراض الداخلي فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الضغوط على القروض الائتمانية المقدمة لقطاع الأعمال في الولاياتالمتحدة- الذي يعاني أصلاً من شح السيولة. من ناحية أخرى فإن زيادة الطلب الحكومي على الأرصدة النقدية لا بد له وأن يؤدي إلى ارتفاع سعر الفائدة على القروض المقدمة وارتفاع سعر صرف الدولار نتيجة لذلك. وهذان أمران كلاهما يمثلان خطراً على الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من الكساد وعجز في الحساب الجاري وارتفاع الدين القومي إلى 82% من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن بالنسبة لنا هذا السيناريو لا يبدو سيئاً إلى تلك الدرجة. فنحن سوف نحصل مقابل نفطنا على دولار قوي وبالتالي فإن الضغوط على مشترياتنا من أوروبا واليابان سوف تقل. فارتفاع سعر صرف الدولار من شأنه أن يحسن قدرتنا الشرائية خارج مناطق الدولار. من ناحية أخرى فإن زيادة الطلب الحكومي الأمريكي الداخلي على النقود سوف يساهم في رفع سعر الفائدة على الدولار وبالتالي رفع سعر الفائدة على الودائع التي نحتفظ بها في المصارف الأمريكية. كما أن هذا الإجراء سوف يؤثر بصورة إيجابية في خفض الضغوط التضخمية التي يمكن للولايات المتحدة أن تصدرها إلينا. بيد أن هذا السيناريو ضعيف الاحتمال، كما يبدو لي، طالما أن الولاياتالمتحدة لديها الحق في طباعة الكمية التي تحتاجها من الدولارات لتغطية العجز الذي تعاني منه. فإذا سارت الأمور وفق لهذا المنوال فإن هذا من شأنه أن يخفض سعر الفائدة على الإقراض الأمر الذي سوف يلقى ترحيباً من قطاع الأعمال المتعطش للقروض. ولكن ذلك سوف يكون على حساب التضخم الذي سوف يرتفع في هذه الحالة. أما بالنسبة إلينا فإن تطور الأحداث في هذا الاتجاه يعتبر غير مناسب إلى حد ما. فانخفاض سعر صرف الدولار سوف يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط مقابل ذلك الانخفاض وتشجيع المضاربة على عقود النفط الآجلة وعودتنا بالتالي إلى المربع الذي كنا واقفين عليه حتى سبتمبر من العام الماضي. من ناحية أخرى فإن ارتفاع أسعار الوقود والمواد الخام من شأنه أن يؤدي إلى زيادة معدل التضخم الذي نستورده من البلدان الأخرى. خصوصاً من شركائنا التجاريين الرئيسيين في آسيا. ولذلك فإن الرز، وفقاً لهذا السيناريو، من بين السلع المرشحة للارتفاع خلال الفترة القادمة. ولكن الولاياتالمتحدة إذا ما استهوتها الحلول السهلة لتغطية عجز الميزانية فإن ذلك سوف يساهم في الإسراع في فقدان الثقة العالمية في الدولار بصورة شبه نهائية. فالتوجه نحو طباعة النقود غير المغطية سوف يشجع الدول الدائنة للولايات المتحدة على المزيد من التخلص من سندات الخزينة الأمريكية والأرصدة الدولارية التي تحتفظ بها واستبدالها بعملات أو أصول أخرى أكثر أمانناً. غير أن الدول الدائنة يفترض أن تكون على حذر في هذا المجال. فالوضع الهش لاذونات الخزينة ممكن أن يتطور ويتحول إلى فقاعة جديدة في الاقتصاد الأمريكي. وهذا ما يخشاه العالم وعلى رأسهم الصين التي لديها استثمارات في سندات الخزينة تصل إلى نحو 800 مليار دولار. هذا بالإضافة إلى بقية الأرصدة الدولارية التي تمتلكها والتي يصل مجموعها إلى ترليوني دولار. ولهذا نرى الصين تسير خطوة نحو الابتعاد عن الدولار ومن ثم تتراجع عن ذلك خطوتين.