الحراك الثقافي الذي أحدثته جامعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للعلوم والتقنية في المجتمع السعودي كان بحجم طموحاتنا في الجامعة، فالجامعات منارات للعلم، ومعاقل للبحث، وهي دور الحكمة ومخازن الفكر وميادين العلماء التي يجيدون فيها الإبداع. لقد تصورت تيارات معينة أنها ربحت السباق فغردت خارج السرب دونما توخّ لحقيقة ما يجري، وانكفأت أخرى تندب حظها وتصور الموضوع وكأنه مؤامرة تحاك على الإسلام والمسلمين، وكأنهم الوحيدون المعقود لهم المحافظة على بيضة الدين. والواقع أنه لا غالب ولا مغلوب، فنحن نخوض مرحلة البناء والتطوير في بلادنا؛ والجميع مشارك فيها، ولا أحد بمفرده يمتلك الحقيقة، وطالما أن ثوابت بلادنا قد تحددت سلفا في أنظمة الحكم، ولا مجال للمزايدة أو الخيالات أو الأمنيات في هوية الوطن، فإن بلادنا ستبقى بمشيئة الله معقلا حصينا للدين الإسلامي الصحيح، وستعمل جهدها لتعزيز الوسطية والاعتدال وذلك من أجل استمرارية الدعوة ونقاء العقيدة. وإذا كنا نتعامل من هذه القناعة في المجمل، فإن أحدا لا يمكن أن يتوهم أن ما يجري في بلادنا من حراك فكري صحي موجه ضد الدين، كما أنه لا يمكن أن يجنح الخيال بمن يعيشون في أزمة مع الدين والمحافظة أن يتوهموا نصرا في بلاد لا يمكن أن تقبل بغير راية الإسلام خفاقة على مستوى الممارسة المحلية والتعاملات الدولية. كل ما في الأمر أننا نعيش مرحلة من التدافع الإيجابي بين الآراء والطروحات من أجل إعادة قراءة وفهم نصوصنا الشرعية في ضوء المستجدات؛ فإذا كان ديننا صالحا لكل زمان ومكان فإنه لابد أن يستوعب عصرنا بما فيه من متغيرات لم تكن في عهد أئمة السلف رحمهم الله. مجتمعنا يتمتع بخصوصية - أحيانا نضيقها علينا إلى درجة نشعر أننا مختلفون عن بقية المسلمين في العالم - والخصوصية الإيجابية التي نريدها تتطلب منا أن نجدد في فكرنا وأن نطور من أدواتنا في فهم الدين وتطبيقه بما يتناسب مع معطيات الواقع الذي نعيشه من غير إفراط أو تفريط، وبذلك نكون قدوة للعالم الإسلامي؛ نستوعبه بقضاياه، ويجد فينا القدوة والمثال، خصوصا وأننا بلد الحرمين الشريفين بما يمليه علينا ذلك من مسؤوليات جسام أمام المسلمين في التنظير والممارسة. إذا لم نفعل ذلك فسوف نكون نشازا عن بقية المسلمين نسيء للدين أكثر مما نخدمه، وننفر الناس منه بدلا من تأليف قلوبهم عليه، وسنعزز دعاوى أعداء هذا الوطن بأننا ندين بدين سعودي لا يوافقنا عليه بقية المسلمين. لقد أسست دولتنا مؤسسات عديدة وأوكلت لها صلاحيات النهوض بالدعوة ونشر القيم، وأناطت بها تحقيق العدل، وتوعية الناس في دينهم، وضبط الممارسات لتكون منسجمة مع المنظومة الأخلاقية والقيمية الإسلامية. وعلى تلك المؤسسات أن تضطلع بدور مبادر فتعقد المؤتمرات، وتقيم الحلقات العلمية وتستفيد من خبرات الآخرين من أجل فهم عميق للدين بالوصول إلى "المعاني والأسرار والحكم التي يتضمنها النص" وليس التوقف السطحي عند قضايا يجوز فيها الاختلاف وتنزيلها منزلة المحكم الذي لا يجوز الاجتهاد فيه. إن الريادة تتطلب المبادرة، والمبادرة تقوم على التغيير، والتغيير يحتاج إلى شجاعة في إعلان الرأي الصحيح وإن كان مخالفا للمألوف. وإذا كان بعض علمائنا سيصمتون وهم يعرفون الحق خشية من فقدان الشعبية فإنهم بذلك يخلون بالأمانة.