مالي أرى القلب في عينيك يلتهبُ أليس للنار، يا أخت الشقا، سببُ بعض القلوب ثمار ما يزال بها عرف الجنان، ولكن بعضها حطبُ أخاف في الليل من طيف يسيل على موجات عينيك حيناً، ثم يغتربُ فرب أنثى، يخون البؤس هيبتها والبؤس أعمى، فتعيا ثم تنقلبُ فلا تخافي عذولاً فالعذول مضى والعصر سكران، يا أخت الشقا، تعب أما أنا، ولو استسلمت أمس إلى خمر الليالي، فقلبي ليس ينشعبُ لقد قلت، وأكرر، إن المهم، في هذه الحياة، ألا ينشعب القلب، ألا ينكسر المرء، من الداخل، ألا يخاف العدو أو العذول، ألا يسقط في الوهم، أن يعرف عصره جيداً، ففي هذه المعرفة وحدها، يخرج من فحمة الليل، إلى لألأء النهار، ويثبت قدميه في الأرض، أمّنا، التي عنها، ولأجلها، تكون المفاداة! وإذا كان عصرنا سكران، فنحن في الصحاة، وإذا كانت بعض القلوب حطباً، قد فقدت مشاعر الألم إزاء ما يجري من كوارث، في فلسطين والعراق، فإن قلوبنا مايزال بها عرف الجنان، إشفاقاً على الأحياء الذين يتساقطون قتلى في البلدين العربيين، وحقداً مقدساً على الطغاة، وما يمارسون من تدمير وإرهاب وقتل، ثم يزعمون، فجوراً، أنهم يكافحون الإرهاب، وباسم هذه الذريعة الوقحة، تسّاقط صواريخهم وقنابلهم، من أثقل الأوزان، على البيوت التي تدكها دكاً على رؤوس ساكنيها، في كل المدن الفلسطينية والعراقية، بغير رحمة أو اشفاق، لأنهم كعنصريين إسرائيليين، ونازيين أميركيين جدد، قد صُمّت آذانهم عن كل رحمة أو إشفاق، وكلما غرّزت أقدامهم في مستنقع الموت، أخذهم سعار الإدماء، تعطشاً إلى العض والنهش، في جسوم ضحاياهم من العزّل، وبينهم الأطفال والنساء، والعجّز من الشيوخ، الذين يموتون تحت انقاض بيوتهم، أو تتشظى لحومهم نتفاً، وتتناثر أشلاؤهم مزقاً، على صحصاح أو يم فلسطين والعراق، الذي طالما مسّدوه بالأكف الحانية، استنباتاً للخضرة، وما فيها من زهر وعطر. ان سكرة العصر، لا بد أن يعقبها خُمار العصر، وفي هذا الخمار صُداع موجع، بدأنا نرى طيوفه السوداء، في ثنايا وجوه المعتدين، ونلمحه في طوايا الأكفان، تُنقل بمن فيها، في حلك الدجنّة، عائدة على متون الطائرات التي جاءت بها، وعند وصول الجثامين، إلى الولايات الأميركية، يكون البكاء وصرير الأسنان، وعبثاً يحاول رامسفيلد، بوجهه المكرمش من لؤم، أن يشد عزائم جنوده، أن ينفخ في قُرب مثقوبة تشجيعاً لهم، أو رفعاً لمعنوياتهم، وعبثاً، كذلك، يطلق العنان للمرتزقة الذين جاء الغزو الأميركي بهم، كي يقوموا بتفجير السيارات الملغمة، في الأحياء والتجمعات السكنية، واتهام المقاومة العراقية بأنها هي الفاعلة، تشويهاً لسمعتها! وما يفعله بوش في العراق، يفعله شارون في فلسطينالمحتلة، والحصيلة، في الحالين، واحدة، وخُمار سكرة العصر واحد، وإذا كان للدم الملحوس عن مبرد القهر الذاتي فيه لذاذة، فإن فيه، أيضاً، مرارة، تتجلّى قسماتها في وجوه الأميركيين والإسرائيليين على السواء، وكل محاولة لاخفائها باطلة الأباطيل، فالذي يزرع الريح يحصد العاصفة، ونحن، هنا، لا نتحدث عن عواصف الطبيعة، فهذه مدعاة للأسى والأسف، لكننا نشير إلى عواصف العدوان البربري، وما فيها من سفح للدم، واغتيال للضمائر، وبذر للكره، الذي يعقبه تساؤل من الشعبين الأميركي والإسرائيلي، وبصوت جهوري «لماذا نحن مكروهين إلى هذا الحد!؟» والجواب معروف، لكنه مموه في إعلام واشنطن وتل أبيب، هذا الإعلام الضخم، المعجون بصلصال الأكاذيب. وستمر الأعوام، ويبقى الثأر المعتّق في الدنان، ثأراً مطلوباً من الشعب العربي، إلى أن يوفّى، وسيوفّى عندما يصبح مصير هذا الشعب، في يديه القويتين.. ولقد وجهت، في نهاية العام ألفين، من القرن الماضي، رسالة إلى القرن الواحد والعشرين المقبل، هذا نصها: عزيزي القرن المقبل، يكتب إليك رجل بسيط لكنه معروف، فإذا كنت لا تعرفه فاسأل عنه سلفك القرن الماضي، لأنه كان على كفاء معه، ناضل فيه، ولأجله، وحقق بعض آمال من ناضل لأجلهم، وخاب في تحقيق البعض الآخر من هذه الآمال، لكنه لم ييأس أبدا، ولن ييأس أبداً، وهو يعذر من يئسوا، بسبب من الانهيارات التي حدثت في نهاية القرن العشرين «القرن المجيد والسافل» الذي كانت بدايته مجيدة، ونهايته سافلة، والكفاح فيه استمر، ولن يتوقف قانون الحياة هذا. إنني أعلم! نعم إنني أعلم، انك تهل وعلى منكبيك تلال من المشاكل والهموم، وفي أفقك المنظور كثافة من غيوم سود، إنما، وهنا ما هو مهم، في ستارة هذه الغيوم انقشاعة بيضاء، هي إلى اتساع، وما عداها إلى ضيق، فكل فكرة كانت حلماً، وكل حلم كان توقاً، والتوق الإنساني يكون قابلاً للتحقق، بقدر ما هو صادر عن دائرة الممكن، فالمعجزات أزرى بها الدهر، وستنبذها أنت، بعد أن تتندر عليها، والأمر واضح فلا إشكالية. ووضوحه يفيد أن المعجزات، حتى في يقين السذّج، صارت لا يقين، كونها لا تعبِّر عن طموح إنساني، جال يوماً في خاطر رجل أو امرأة، في خاطر شعب أو أمة، في خاطر واقع هزم ما هو فوقه، لا السوريالية بما هي إبداع، بل السوريالية بما هي ميتافيزيقا مآلها إلى غروب، ولو تدريجياً. ناظم حكمت قال عن القرن العشرين: «أن ننام الآن، لنستيقظ بعد مئة عام، لا، يا حبيبي، عصري لا يخيفني، ولست هارباً»، ونحن، بالنسبة إليك، لسنا بالخائفين، ولسنا بالهاربين، ولن ننام بل سنعمل، ومع العمل تكون الأخطاء، أحياناً، وتكون معه، أيضاً، النجاحات، ولسوف نخطئ، لكننا سننجح، وهذا ما لا شك فيه، فالجسم الغريب، المزروع في الأرض العربية، والذي اسمه إسرائيل، مطوق بالعرب، وتعايشه معهم ممكن، في حال واحدة: إعادة الأراضي العربية المحتلة إلى أصحابها، وإعادة الحقوق العربية المغتصبة إليهم أيضاً، وفي هذا حد الحد ولا خيار، إلا الخيار الذي يدرأ الفناء، وهو خيار لصالحنا، مهما يطول الزمن، ونحن نعرف ذلك، والأعداء، قبلنا، يعرفونه أيضاً، وجيداً! فإذا خرجنا من الشرق الأوسط، في ضيقه والحدود، إلى رحابة العالم، ونظرنا إلى «القرية الكونية» في جغرافيتها لا مصطلحها، وجدنا ألف قضية لألف سبب، ووجدنا ألف حل، لهذه الألف قضية، له اسم واحد: الاشتراكية! ونعني، ههنا، الاشتراكية التي أمامنا، لا تلك التي صارت وراءنا، فالتجربة الأولى فشلت، قتلتها أخطاؤها، ومنها نتعلم ألا نخطئ في التجربة الثانية، والرابعة، أو ما شئت، ايها القرن المقبل، من تجارب، ذلك أن في الاشتراكية وحدها سنجد الحل للعدالة الاجتماعية، حلم البشرية ازلاً أبداً، لا في الرأسمالية، هذه التي أثبت التاريخ أن الحل ليس فيها، ولو كان، ولو أن الرأسمالية حلت مشاكل البشرية، لما كان الفكر الاشتراكي، وتالياً النظام الاشتراكي، النظام كنظام وليس كتجربة، ومثالنا الثورة الفرنسية، وما تعاورها من تجارب.. أما ما قيل، أو يقال، عن نهاية التاريخ، وما يومئ إليه من تأييد التاريخ الرأسمالي، فإن كل ذلك سفسطة، أكدت بطلانها هذه الانبعاثات والانتصارات، التي تتحقق لقوى الاشتراكية، وفكرها، في أربع جهات الأرض. نأتي، بعدُ، إلى الايديولوجيا، والحديث عن موتها، أو موت نسق منها، ونفض الأكف من غبار دفنها، واهالة التراب عليها، لنبتسم باشفاق على هذا النقيق الضفدعي، فالايديولوجيا وجدت مع الإنسان الأول، وستبقى مع الإنسان الأخير، لأنه، وهذا من البينات، ليس من كائن بشري بغير تفكير، وكل نسق تفكيري، في رأس أي كائن بشري، هو الايديولوجيا التقدمية، وسنظل نتعاطى معها في ثقافتنا وابداعنا، وبدلالة الحدث، أدبياً وفنياً، فخذوا علماً بذلك. نصل إلى الثقافة العربية، في وحدتها، مشرقاً ومغرباً، وفي ازدهارها، من خلال انتاجاتها، والكلام، في مداه الأقصى والأدنى، يمكن إيجازه بأن هذه الثقافة إلى بقاء، برهنت عليه الأيام، في قرونها والعقود، وثمرة هذه الثقافة الإبداع، وإبداعنا العربي، نبت ثقافتنا العربية، ولا خوف عليهما من التحديات التي يواجهانها، من الجوار والعالم، ودليلنا أنهما يقرعان، في نهاية هذا القرن، أبواب العالم بقبضة قوية، والأبواب تفتح لهما أكثر فأكثر، وعن جدارة، وإلى مزيد دائم وتدريجي، ليس بعد نوبل محفوظ فقط، وإنما قبلها أيضاً. وماذا بشأني، يا قرننا المقبل؟ إنني، كما سبق وقلت، إنسان بسيط، وكاتب متواضع، يؤمن بالحقيقة النسبية، وهذه النسبية تنسرح على كامل رسالتي إليك، ويعتقد اعتقاداً جازماً، بما قاله الطروسي(*): «الحياة كفاح في البحر وفي البر» وقد كافحت، طويلاً، بجسدي، وأكافح، فيما تبقى من العمر، بقلمي، وهو أضعف الإيمان، فتقبل كلماتي بما أردت، لكنني، أنا، استقبلك بما أريد، وهذا الذي أريده يسير: أن أكون مع عصري، وأن أقبض على نبضه، وأن يكون سيري متساوقاً ومجرى التاريخ، وسيكون كذلك بغير شك، وأهلاً ومرحباً بك، والسلام العادل لجميع الشعوب. (*) الطروسي: بطل روايتي «الشراع والعاصفة».