يخيم الحزن عليها.. مكة لم تعد آمنة، فلم يجرؤ أحد على البوح بإيمانه إلا قلة ف(أول من أظهر إسلامه سبعة: النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد – السيرة كما جاءت في الأحاديث الصحيحة) تحاصرهم دروبها، وكأنهم داخل سراديب محاكم التفتيش وأقبيتها المرعبة.. تتلفت في ساحاتها فترى الأهوال.. هاهو أبوجهل قد أضجع عمار بن ياسر وأمه وأباه رضي الله عنهم.. يسلخهم بسوطه ولسانه، فيمر بهم عليه السلام، لا يستطيع فعل شيء فيعزيهم: (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة -صححه الألباني) وبعد جولات من التعذيب المرير يتطاير الحقد من قسمات أبي جهل.. تدور عيناه في وجهه المكفهر كما يدور حول أم عمار (سمية بنت خياط) التي تثير جنونه بترديدها ل(لا إله إلا الله) فيفقد صوابه ورجولته، ويتناول حربة ثم يطعنها في أسفل بطنها فتخرج من ظهرها.. ينتفض جسدها النحيل من حر الطعنة، ثم يهدأ شيئا فشيئا حتى يسكن، وتحيط به دائرة من الدم الزكي، وتصعد روح أول شهيد في الإسلام.. امرأة. ينظر إليها زوجها وكأنه يريد اللحاق بها، فيزداد سعار المجرم فيقتله هو الآخر، وتشخب دماؤه، ويئن عمار وجدا عليهما، لكنه لم يعد يحتمل مايرى ويلقى، فيمدح أصنامهم، ويمر به عليه الصلاة والسلام فيطمئنه مادام قلبه مطمئنا بالإيمان. في مكان آخر، يوقد مجموعة من الوثنيين نارا ثم يتوجهون نحو خباب بن الأرت رضي الله عنه ويقيدونه، ويكشفون ظهره ويلصقونه بالأرض، ثم يسحبونه على تلك النار، فيعلو صراخه والجمر يلتصق بظهره فلا يستطيع انتزاعه، حتى قال خباب: (لقد أوقدت لي نار وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري - الاستيعاب) أما بلال، فبلال في كل مكان.. ينحت معاناته في كل الطرق والميادين (هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه- السيرة، السابق) لم يعد يخاف أحدا منهم، ولم يعد يأبه لتهديدهم ووعيدهم وسياطهم، عجز أمية عنه وكلت يداه من تعذيبه وكاد شحمه الذي يلتف حول جسده أن يسيح من التعرق وهو يعذبه.. انهار الجلاد وصمد بلال، فأمر بربط طرف حبل حول عنقه، ثم ألقى بطرفه الآخر إلى مجموعة من المراهقين والسفهاء ليلعبوا به ويسخروا منه ويهينوه، فأخذوه في الشوارع والأزقة.. يسحبونه.. يشتمونه.. يحثون عليه التراب ويركلونه.. يبصقون في وجهه، فهو في نظرهم مجرد عبد آبق، فإذا سقط أعادوا سحبه وسط قهقهات كبار القوم الذين يمارسون قبحهم على جسده، لكنهم عجزوا عن إطفاء الضوء الذي يشع في أعماقه ويعيد التوحيد لأجواء مكة: أحد.. أحد... تحرر بلال من كل لغات الإملاء، وبلغ أقصى مسافات الحرية.. فلم يعد يرى أمامه من يستحق الخوف والإذعان سوى خالقه.. كان يحاول أن يسقيهم رشفة من نبع السماء علهم يرفعون رؤوسهم وعقولهم عن تلك الأخشاب والحجارة التي يصنعونها ثم ينحنون لها. تتطاير أخبار التعذيب والتكذيب في جزيرة العرب، فيأتي رجل حر اسمه (عمرو بن عبسة) فيفاجأ بالرعب يلاحقه ويتلصص عليه، والأسئلة لا تجد سوى الأسئلة، فيجده ويقول: (ما أنت؟ قال: أنا نبي. فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله. فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء. قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد... فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ -مسلم) فيعود عمرو وهو يقول: (فلقد رأيتني وإني لربع الإسلام) وهو لا يعلم أنهم بالعشرات، ونبيهم يأمرهم بالصبر، ولا يعدهم بغير الجنة، ولما ازدادت معاناتهم اقترح عليهم مغادرة مكة، ولكن إلى أين؟