يُنقل عن الرئيس الأسبق لشركة الحاسبات "هيوليت باكارد Hewlett Packard" قوله إثر معاناتها لبعض المشاكل "لو أن المعرفة الموجودة لدى الشركة قد استُخدمت الاستخدام الصحيح لكانت في المُقدمة دائماً". والمقصود بهذا القول إن لدى الشركة، من خلال العاملين فيها ومُؤهلاتهم وخبراتهم، رصيداً كبيراً من المعرفة. وعلى ذلك فليس السبب في قصور الشركة قصور المعرفة فيها، بل إن السبب هو عدم استخدام هذه المعرفة بالشكل المطلوب. وعدم الاستخدام هذا يعني ضعف إسهام أصحاب المعرفة بما لديهم في تطوير الشركة وتنمية عطائها. وقد تكون أسباب ذلك مرتبطة بسلبية أصحاب المعرفة، أو ربما بسلبية الإدارة أو النظام الإداري وعدم إتاحة الفرصة الكافية لهم، أو لعل الأمر يرتبط بالمُشكلتين معاً. وهنا تكمن قضية الفرق بين ما يُعطى في الواقع، وما يُمكن أن يُعطى في حال مُشاركة الجميع بالكفاءة اللازمة. ويعتبر الأكاديمي الياباني "إكيوجيرو نوناكا Ikujiro Nonaka" أن الأنظمة الإدارية بتعقيداتها وهرمية تكوينها تُؤدي إلى تحديد إمكانات الموظف وتكليفه بمهمات مُحدودة لا يخرج عنها، هي مهمات وظيفته؛ حيث يُطلب منه العمل على أدائها بدقة، وحتى دون النظر إلى ما يجري من حوله. ويرى هذا الأكاديمي أن ذلك يُعيق إمكانات الموظفين، ويحد من مشاركتهم وبالتالي الاستفادة من إمكاناتهم، خصوصاً أولئك القادرين على التطوير. وبذلك تبقى هذه الإمكانات دون فائدة. ويأتي ذلك تحدياً لحقيقة أن مُقترحات التطوير العملية يُمكن أن تأتي أساساً من أولئك الذين خبروا الواقع ومشاكله ونظروا إلى المستقبل لحل هذه المشاكل. ولعل "جاك ويلش Jack Welsh" كان بين المدراء البارزين الذين حاولوا إتاحة الفرصة لموظفيهم الإسهام في تطوير الشركة التي يعملون فيها دون عوائق إدارية. فقد تولى هذا المدير إدارة شركة "جنرال إلكتريك General Electric"، إحدى الشركات الأمريكية الكبرى في فترة الثمانينيات من القرن الميلادي السابق، عندما كانت الشركة تعاني من مشاكل كثيرة، ثُم تقاعد منها في التسعينيات عندما استردت عافيتها ونجاحها. كان "ويلش" يعقد اجتماعات دورية للموظفين في مُنتجعات الإجازات ويسمح لهم ليس فقط بعرض مُنجزاتهم بل بطرح ما يرونه من مشاكل، وتقديم حلول لها، حتى وإن لم تكن ضمن المهمات الوظيفية الخاصة بهم. وكانت هذه الاجتماعات تُفرز قرارات تطويرية مهمة، كما كانت تُؤدي إلى فتح باب الفرص أمام الحريصين على نهوض الشركة للإسهام في هذا النهوض. ولم يكن ذلك فقط من خلال ما يقدمون من أفكار مفيدة، بل من خلال تكليفهم بتنفيذ هذه الأفكار في كثير من الأحيان أيضاً. فقد كانت الترقيات الوظيفية تأتي لأصحاب الأفكار النيرة، وتُسحب من أولئك المستسلمين لعدم التطوير. وكانت العبرة بعد ذلك بتحسن الأداء أو التغيير من جديد. ولا شك أن مُؤسساتنا سواء الحكومية أو الخاصة تحتاج إلى تطوير، فهذا التطوير هو المُحرك المطلوب لدعم التنمية وتعزيز العطاء ودعم مسيرة الوطن نحو المزيد من التقدم. والتوصية هنا ذات شقين. أولهما أن يحرص كُل إنسان على تطوير المُؤسسة التي يعمل فيها، من خلال خبرته فيها. ويجب ألا يكون ذلك بشكل عشوائي، بل أن يتم بالفكر والحكمة والعطاء المعرفي الإيجابي. وثاني هذين الشقين أن يسمح النظام الإداري، والقائمون عليه في المُؤسسات بمثل ذلك. ففي هذا السماح نجاح لهذه المُؤسسات وبالتالي نجاح للقائمين عليها، ناهيك عن أن النجاح الجماعي للمُؤسسات هو نجاح للوطن ولمكانته بين الأمم. إن كُل إنسان قادر على التفكير والتطوير إذا ملك الإرادة وسمحت له الظروف. وإن كُل مُؤسسة مهما تطورت تحتاج إلى تطوير لأن المتطلبات والمتغيرات والتطلعات لا تتوقف، طالما شاء الله لحياة الإنسان على الأرض أن تستمر.