في زحمة المواقف التي تبعث على السأم والكآبة، يقف الكائن الموصوف بالمثقف في الفضاء العربي، على أرض هشة لا تكاد تحتمل ثقل وزنه. حيث الفرص المضيعة والحالات المجزوءة التي تدعو إلى الاضطراب والتوافق المزعوم. كل شيء هادئ ويسير بطريقة مصنعة وفق ما مشيئة القوة الأهم التي تفرض التصورات والرؤى والتوجهات. وعلى هذا فإن الفقد والخذلان يكون المتسيد للمجمل من المقولات التي يتم تداولها، فيما يكون الشأن الثقافي بمثابة الموضوع الأخير في قائمة الأولويات التي يفرضها زخم القسر والقهر والطاعة والارغام الذي ألقى بحمولته الثقيلة على الواقع العربي، إلى الحد الذي بات من العصي تبيان ملامح التفاصيل التي يزخر بها الواقع. تمييز الملامح تحت شعار املأ الفراغات التالية، راح المثقف العربي يفصح عن براعته في صناعة التوافق مع المراحل والمتغيرات الطارئة التي راحت تترى بحضور غريب على مساحة الوعي، إلى الحد الذي صار المواطن ينظر بعين الريبة والتشكيك، بهذا المثقف الذي ما عادت له ملامح محددة يمكن تبيانها أو حتى تمييز قسماتها. فمن اللوك المفضي إلى الفراغ، أو إلى الخلق الهلامي الذي يزيد العالم عمها وقتامة، راح المثقف العربي يراهن على مسألة الترميز، في خلطة من التسويغ والتبرير الذي يصل في الكثير من الأحيان إلى محاولة استغفال عقل المتلقي، حيث الاستغراق في التلفيق والاتكاء على التعالي الذي يأخذ مداه لدى البعض من منتجي الخطاب، باعتبار محاولة الاستناد إلى الفرق الكامن بين المنتج والمتلقي، والفواصل التي تنتجها حالة التخصص التي يقف عليها المثقف، بحكم اقترابه من الموضوعة الثقافية. لكن متكأ من هذا النوع، ظل بمثابة العبء الأكبر الذي راح يستبد بموقع المثقف داخل محيطه، إلى الحد الذي راحت المسافة تتسع خصوصاً في مجال التعبير عن الواقع والمشغلات الأساسية التي تهم المواطن بشكل رئيس. لا يمكن التغاضي عن الكم من المنتج الثقافي العربي، والذي راح يحضر بشدة وقوة، لا تختلف البتة عن المجمل من المعطيات والمشغلات التي تحيط بمجال التعامل مع العقل العربي، حيث العقل يكون الأخير من بين الاهتمامات، فيما يتصدر الخطاب الأبوي كل شيء إلى الحد الذي لا يتوان القارئ من الوقوف على كم الحكمة المطلقة التي يكتنز بها الخطاب، لكن السؤال الحائر يبقى يدور في فلك هذا التناقض المثير للحنق والأسى والمتعلق بالعادة، حول هذه القيم الكبرى التي يتم التهليل لها، وبين هذا الواقع البائس الذي يفرض بثقله على المجمل من التفاصيل. ومن هذا الزخم من التداخل المفرط يكون الوقوف على الحالة المفزعة التي تأخذ من حضورية المثقف العربي، الذي يكاد ان يكون قد قال كل شيء، في فيض من المقولات والمعالجات والتيارات والاتجاهات، لكن الملفت يبقى مرتهناً عند هذا الفاصل والذي يفصح وبجلاء لا يستدعي المزيد من الحصافة إلى اكتشاف ان «كل هذا الشيء» يدخل في باب الهراء أو عدم الافصاح عن أي شيء! اقتفاء الأثر بين الكل شيء واللا شيء، يكمن المأزق الذي يحيط بالثقافة العربية. فالرغبة بالحضور تبقى شاخصة في ذات المثقف، وعلى مختلف الأطياف والتنوعات التي يحفل بها المجال الثقافي العربي، الأصيل منها والمزيف، الحقيقي والدعي، المبتكر والمميز والعادي الضحل. فيما تبقى مسألة البحث عن اقتفاء النتاج النوعي داخلة في باب محاولة الوقوف على الجردة التي تفرضها البعض من التشابكات والتحوطات التي تفرضها ودائماً بعض القوى الخارجة عن الثقافة والمثقفين. وإذا كانت هذه الأزمة لا تقتصر فقط على الواقع العربي، فإن طبيعة تجلياتها وتفاقماتها تجعل منها واقعة في إطار التخصيص الذي تفرضه، طبيعة الواقع المعاش. الحديث عن الأزمة والاشكالية راح يتكرر إلى حد الاملال، ومن هذا الملل راح الكثير من الأطراف يعمد إلى استثماره، والعمل على توظيفه ضمن الموجهات المأمولة والمرسومة، حيث الرغبة العارمة نحو حسر مجال تأثير الصوت الثقافي، بل والحرص الشديد على تقزيمه إلى أقصى ما يمكن. وإذا كانت المعطيات الواقعة تشير دائماً إلى أهمية الثقافة في التنوير والتوعية والتنمية والتطوير، فإن سعار البحث عن السيطرة على القيادة الرمزية للمجتمع، تبقى الأشد شخوصاً في المجال العربي، وعلى هذا راحت محاولات الالحاق تترى وبكثافة ملفتة من قبل القوى المهيمنة والمسيطرة في سبيل تدجين وتطويع هذا الكائن، الذي راح يعيش حالة الحصار والترغيب والترهيب والقمع والاذلال. ومن هذا الواقع المليء بالازدراء والتشظي، فقدت الثقافة العربية مكونات التفعيل والتأثير المفترضة، حيث انحسار دور المنافسة في المجال الذي تتيحه آلية العلاقة التي تمنحها السلطة، من خلال المنة والهبة والمكرمة. فيما غابت الجذوة العميقة التي من المفروض ان تقوم عليها الثقافة الحقيقية والفاعلة والأصيلة. المقايسات والترجيحات التي يمكن ان تدرج في واقع يعاني من الوهن والتمزق، تبقى مرهونة بعامل المصادقة والفرصة الضنينة والمحدودة، التي يمكن ان تتاح لهذا المثقف أو ذاك، وعلى هذا بقيت الثقافة العربية تعاني من أحادية الصوت، حيث المشروع الثقافي الذي راح يتشدق به البعض، على حساب المعطى الواقعي الذي تعاني منه مجمل التفاصيل العربية. ومن هنا تحديداً يكون السؤال حول جدوى هذا الادعاء الكبير والمفخم، والموضوع في خانة التدبيرات والتحفظات الموغلة بالفردية، والذي يتبدى في لبوس اللاجدوى. فما أهمية الإعلان عن المشروع الذي يتصدى لتفكيك العلاقات والبحث في بناها الداخلية، من دون ان يكون له صداه على صعيد الواقع.