نحمل في داخلنا ذكريات جميلة عن أفلامٍ شاهدناها في الصغر فأعجبتنا وتأثرنا بها حتى استحالت جزءاً رئيساً من كياننا الروحي والعاطفي، نتأثر بها في أي وقت، ونستعيد معها ماضينا الجميل. وهي لهذا خارجة عن معايير التقييم الفني، ولا يخضع إعجابنا بها لأي منطق، لأن العلاقة معها مبنية على العاطفة، وإذا وجدت العاطفة فلا تسل عن عقل ومنطق. فأنت لن تستطيع أن تشرح لغيرك سبب افتتانك بأول فيلم شاهدته في حياتك، ولن تجرؤ على وضع فيلمٍ مثل "رامبو 1" على رأس قائمة أفضل الأفلام في تاريخ السينما، لأنك تعلم أن إعجابك بهذا الفيلم تحديداً هو شيء خاص بك وحدك، لن يفهمه أحد غيرك، وتقديرك له إنما هو نابع من مشاعرك الخاصة جداً التي استقبلتَ بها الفيلم أثناء مشاهدتك الأولى له عام 1988.. لذا يبقى التحدي الأكبر الذي يواجهك هو أن تتمكن من تصوير المشاعر التي تنتابك تجاه هذه الأفلام، وتجاه السينما عموماً، وأن تنقل هذه المشاعر - التي اتفقنا أنها خاصة بك وحدك - إلى غيرك من الناس. وحتى لا تجهد نفسك في البحث عن طريقة مناسبة للتعبير عن مشاعرك تجاه السينما، فإني أضع بين يديك محاولات لزملاء لك عشقوا السينما مثلك وافتتنوا بها إلى الحد الذي قادهم إلى صناعة أفلام خاصةٍ للتعبير عن هذه المشاعر؛ أفلامٌ صنعت من أجل التغزل بالسينما وتبيان دورها في تشكيل عقل وروح وذاكرة إنسان القرن العشرين. وإني أدعوك لمشاهدة هذه الأفلام كي تكون نماذجَ لك تحتذيها إذا ما رغبت أن تُحدّثَ غيرك عن عظمة السينما ودورها المؤثر في حياتك. ولتكن بدايتك مع الفيلم الإيطالي الساحر (سينما باراديسو -cinema Paradiso) الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1989 للمخرج جوسيب تورانتوري الذي ورطنا معه وأجبرنا على عشق السينما بفضل حكايته الرقيقة التي ربط فيها مشاعر الحنين بالحب والرومانسية وبسحر السينما في مزيج عاطفي مؤثر تدعمه موسيقى بديعة للموسيقار أنيو موريكوني. إنه يحكي قصة رجل يعيش في المدينة يأتيه اتصال من قريته يجبره على العودة إلى مسقط رأسه بعد سنوات من الغياب، وليبدأ حينها رحلة مع ذكريات الطفولة عندما كان يعمل مع العجوز "ألفريدو" في صالة السينما الوحيدة في القرية. كانت صالة السينما تمثل بالنسبة لهذا الطفل الصغير الهواء الذي يتنفسه، بأفلامها الكلاسيكية، وبأهالي القرية الذين يؤمونها كل ليلة يبحثون فيها عن فسحة من الخيال والحلم. وقد صوّر تورانتوري فيلمه بما يليق بالمناسبة، فلم يضع أي شخصية شريرة، لأنه فيلم عن حب السينما وعن سحر صالة السينما وكيف تحولت إلى طقس اجتماعي وذاكرةً لأهالي القرية يستحضرون من خلالها ماضيهم الجميل ولحظاتهم السعيدة وبالنسبة لك، إذا أردت أن تستفيد من هذا الفيلم، وأن تستلّ منه طريقة للتعبير عن افتتانك بالسينما، فيكفيك أن تتأمل في طريقة تورانتوري في سرد قصته، فلأنه يريد أن يغرس في المشاهد حب السينما، فقد استبعد ابتداء عنصر الشر، ثم جعل بطله طفل صغير يسبح في عالم السينما الحالم، ثم وضع قصة رومانسية تجمع بين هذا الطفل عندما كبر قليلاً وبين فتاة جميلة من القرية، واختتم هذا كله بأن جاء بالطفل عندما أصبح عجوزاً وأعاده إلى قريته ليتذكر أيام طفولته. وعندما تأتي السينما إلى جانب الذكريات والحنين للماضي والطفولة وسحرها البريء، فقل لي بالله عليك كيف يمكن لك أن ترفض الاستجابة لمراد المخرج وأن تقاوم محبة السينما. لقد وضع كافة العناصر التي تضمن التأثير في عاطفتك.. وستكتشف أنه نجح في مهمته عندما تتنهد في نهاية الفيلم وتردد: ما أعظم السينما. نفس المعنى يتكرر في فيلم أمريكي للمخرج القدير وودي آلن عنوانه (وردة القاهرة القرمزية- The Purple Rose of Cairo) وظهر عام 1984، ويرسم فيه قصة امرأة تعاني الأمرين في حياتها الواقعية، من زوج أحمق لا يبالي بحاجاتها النفسية والعاطفية، ومن فقر مستديم لا تؤثر فيه السنتيمات القليلة التي تستلمها أجراً لعملها كنادلة في مقهى صغير، لكنها رغم هذه المعاناة، تجد عزاءها في صالة السينما التي تذهب إليها باستمرار بحثاً عن توازن نفسي يعيد لها الثقة بالنفس والرغبة في الحياة. لقد حول وودي آلن صالة السينما في هذا الفيلم إلى ملجأ روحي ينشده الإنسان طلباً للراحة النفسية وهو يعبر عن ذلك بصراحة بإدراجه للأغنية الكلاسيكية الشهيرة (Dancing Cheek to Cheek) التي غناها فريد آستير لأول مرة في فيلم Top Hat عام 1935. وتقول في مطلعها "أنا في النعيم.. أنا في النعيم".. وهو ربط ذكي من وودي بين المعنى الذي ترسمه كلمات الأغنية وبين حالة بطلة فيلمه عندما تزور صالة السينما.. إنها ببساطة في نعيم الحلم والجمال الذي أخذها بعيداً عن قسوة الواقع.