من طبع الإنسان مقاومة التغيير ، وترجيح الموروث ، والثبات على المألوف .. وحين نراجع تاريخ المجتمعات البشرية بثقافاتها وأعراقها المختلفة نكتشف أنها عاشت لهذا السبب دون تطور حقيقي أو تغيير جذري لقرون طويلة وأجيال عديدة .. فالمجتمعات تنظم نفسها من خلال مجموعة متناغمة من التقاليد العريقة والنظم الراسخة التي تقاوم أي تغيير خارجي أو مفاجئ .. غير أن هناك فترات استثنائية (وفقاعات تاريخية) تمردت فيها المجتمعات على نفسها وارتقت في سلم الحضارة من خلال تبني مفاهيم وأفكار نوعية وجديدة بالكامل.. ففي اليونان القديمة مثلا حصلت طفرة علمية وفلسفية مفاجئة ظهر خلالها علماء وفلاسفة كبار (مثل أفلاطون وأرسطو) أحدثوا نقله نوعية في نظرة الإنسان للحياة والكون .. أما العرب فعاشوا قرونا طويلة حياة بداوة وترحال حتى أتى الإسلام وأحدث نقله نوعية في حياتهم وطريقة تفكيرهم بلغت أوجها زمن الأمين والمأمون .. وفي نفس الوقت تقريبا دخلت أوربا عصور ظلام وجهل طويلة حتى بدأ عصر النهضة الحديثة في ايطاليا وتخلصت المجتمعات الأوربية من سطوة الكنيسة والخرافات المتوارثة !! ... وهذه في الحقيقة مجرد نماذج تاريخية على حالات سبات بشرية (قُطعت بصحوة مفاجئة) قلبت حال الأمة خلال فترة قصيرة .. غير أن جذوة الصحوة سرعان ما تخمد ويدخل المجتمع في حالة ثبات وسكون تالية ولكنها تؤسس هذه المرة على آخر الأفكار الجديدة ... فحتى "الأفكار الجديدة" سرعان ماتغرس جذورها في المجتمع وتصبح هي ذاتها مقاومة للتغيير والجرح والتعديل (بل وقد تدخل تحت مظلة القدسية والثوابت الفكرية للمجتمع) .. فرغم انها كانت أفكارا رائدة (في زمانها) إلا أنها سرعان ما تصبح قديمة وجامدة لا تتوافق مع المتغيرات المستقبلية والتطورات الطبيعية للفكر الإنساني .. فأفكار أفلاطون وأرسطو مثلا أحدثت (في وقتها) نقلة نوعية وثورة حقيقية في المفاهيم البشرية ولكنها بمرور الزمن اكتسبت قدسية وثباتا فتحولت الى حجر عثرة أمام أي أفكار أو إضافات تالية (لدرجة كان الأوربيون حتى وقت قريب يحسمون أي نقاش بقولهم : ولكن أرسطو قال كذا وكذا، أو لم يقل أفلاطون كذا وكذا) .. ونفس المفارقة نلاحظها في تاريخنا الاسلامي حيث تميزت القرون التالية لوفاة نبينا الكريم بحدوث انفجار معرفي وفقهي رائع رافقه قدر كبير من حرية الرأي والاجتهاد وتعدد المدارس الفقهية ... غير أن المفاهيم والأفكار الرائدة التي تبلورت خلال هذه الفترة (وأحدثت نقلة نوعية في وقتها) اكتسبت بمرور الزمن رسوخا وقدسية أعاقا بدورهما ظهورأي أفكار أو اجتهادات تالية (لدرجة مازلنا نحسم أي نقاش بقولنا : ولكن مالك قال كذا وكذا، أو لم يقل ابن حنبل كذا وكذا)!! .. ومن هذا كله نستنتج أهمية التسامح مع المفاهيم والأفكار الجديدة والسماح لها بالحياة تحت مظلة من الحرية وحسن النية ... وفي المقابل لا يجب أن نتحرج من مراجعة المفاهيم القديمة بشكل دوري ومستمر خارج مظلة المألوف أو سطوة الموروث.. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذا الرأي هناك حقيقتان (مجردتان) يجب على كل طرف تذكرهما بشكل دائم : - الحقيقة الأولى أن من طبع البشر مقاومة التغيير، وترجيح الموروث، والثبات على المألوف. - والثانية أن من طبع الزمن إضفاء قدسية عظيمة على الأفكار القديمة ، ومثالية كبيرة على الأسماء الشهيرة ..