نستعرض اليوم نصاً شعرياً لشاعر عاش في القرن الحادي عشر الهجري ، إنه الشاعر الشريف جري الجنوبي، ولا أعرف إن كان (جرَيْ) أو(جرِي) والأول أكثر انتشاراً في الحجاز، و شاعرنا حجازي المنبت نجدي النجعة، وقد تحدث عنه الدكتور سعد الصويان في كتابه القيم عن الشعر النبطي، والكتاب ليس بحوزتي الآن. وقد أكد الشاعر شاهر المطيري في كتابه (قاموس البادية) حجازية الشاعر الذي ظل يتنقل في نجد وما اتصل بها من بلاد شرقاً وشمالاً حقبة من الزمن، لايخفي أثناءها حنينه إلى مسقط رأسه ومرتع صباه في معظم قصائده، وهو خبير بمسالك البلاد حتى استفيد من خبرته التي شغلته وملأت حياته ذكريات ومعرفة استفيد منها دليلاً لعابري الجزيرة من البدو الرحل وغيرهم لقوله: جيت من نجد ولا يعرفونني مع غزيو بدوٍ ما لهم دليل ومناسبة طرح هذا النص تشابه أو تناص أو تعالق مع نص في الفصحى للشاعر المخزومي عمربن أبى ربيعة الذي عاش في القرن الأول من الهجرة، هذا النص الذي ربما لعب فيه خيال الشاعر أو غروره ملعباً يغيظ به العشاق ليس إلا، لم لا وهو القائل؟: سلام عليها ما أحبت سلامنا فإن كرهته فالسلام على الأخرى أما النص المعنى لأبي ربيعة فأبيات منها: وناهدة الثديين قلت لها اتكى على الرمل من جبانة لم توسد الى قوله: فلما دنا الاصباح قالت فضحتني فقم غير مطرود وإن شئت فازدد عاش ابن أبي الربيعة في القرن الهجري الأول، وبعد عشرة قرون يجيء شاعرنا النبطي الشريف جرى الجنوبي ليذكرنا بابن أبي ربيعة. وإذا صحت رواية المطيري في (قاموس البادية) بأن (جرى) كان فلاحاً وشده بيت من الشعر إلى حياة البادية وأغراه الكسب ليبقى متنقلا في ربوع نجد، مقدماً خبرته بمسالكها وشجاعته على مواجهة قسوة الصحراء، وشاغلاً غربته بالحنين إلى دياره وخلانه إذ ندر أن تجد له قصيدة تخلو من هذا الحنين إذا صحت الروايه فهو حجازي. ويتسم شعر الجنوبي بلغة امتزجت بالفصحى ورقة المنبت والتأثر بلهجات التنقل بين البلاد، فلا يبعد أن يكون قد تزود في صباه بثقافة واطلاع على ابداع شعراء العربية فتأثر بها وجرت مجرى التأثر في الشكل والبناء في ابداعه. أما النص المعني من شعره فهو لايختلف شكلاً ومضموناً عما ورد في أبيات ابن أبي ربيعة، فكلا المشهدين حدث في ظروف متشابهة زمنا ومكاناً وغرضاً، ولا نجزم بصحة الواقعتين فقد تكونان من خيال الشعراء، ومبالغاتهم وقد يكون فيهما شيء من الحقيقة. يقول الشريف جرى: تكاملت الاحساس عنا ولابقى سوى سامر غنى بدق لحون لقد تفرق السمار وأووا إلى مضاجعهم، ولم يبق سوى عازف يدندن بلحونه ثم غلبه النوم: ثم هوى في البيت مني سماعه ومشيت مشي الغاويات او دون وعندها تسلل الشاعر إلى هدفه في حذر شديد: وقلطت حدبا طالما قد تعدلت تنبه زينات العيون بهون وقامت ورفعت راسها ولي تنبهت بحسٍ كما حس العليل او دون وجاوبتها مثله حديث مضاعف يكود على غيري وعلي يهون وبتنا بأحلى ليلة تطرب الفتى بها من عجاريف السفاه فنون لا أظن أن هذه الصور المبدعة لا يستحضرها أو يفتتن بها شاعر، ولست بحاجة إلى التنويه عنها أو عن حسن سبكها وحسن اختيار مفرداتها، ثم يواصل: تناثر على صدري جعود منقّضة بسَايلْ وهي ذاك النهار قرون وجانا عمود الصبح لا مرحبا به يشدى لجرد السابقات صفون وقالت اقعد صاحبي غير صاغر عن الصبح لا تشهد عليك عيون أن تجربتي الشاعرين متشابهتان، إلا أن المعالجة تختلف اختلاف الزمان والمكان وتقاليدهما، ولدى الجنوبي دقة في الوصف وحذر في التعبير واعتداد بحسن المحادثة والإغراء، ولدى فتاة ابن ابى ربيعة شذر قد تبدد ولدى فتاة الجنوبي جعود منقضة. يقول ابن أبى ربيعة : فقامت تعفي بالرداء مكانها وتطلب شذراً من جمان مبرد أما عجاريف السفاه وفنونها فذاك مالم يصل إليه ابن ابى ربيعة أو انه تحاشى التفصيل فيه، كما تجنب الجنوبي التفصيل محترما خيال المتلقى. إن في الشعر النبطي ابداعاً لايقل جمالاً عما في شعرالفصحى من ابداع، وأحياناً في كليهما اسفاف وترهل لاينكره أصحاب الصنعتين، والشاعر منهما يدرك مافي شعر الآخر من جماليات أو ضعف، و معذرة عن التفصيل. قاع ياقوت: قليل هم الذين يتذكرون (قاع ياقوت) الذي لم يعد موجوداً اليوم، وهو روضة خصبة تحتضن السيول، شملها اليوم التوسع العمراني في مدينة ينبع البحر، وقد كانت هذه الروضة متنزها ربيعياً لأهل ينبع ومرعى لمواشيهم في مواسم الربيع، واليوم يقام عليها عدد من المباني الشاهقة، والقصور الجميلة، وربما كان فندق الهولي داي إن من بينها. في حوالي عام 1350 مر الشاعر بهذه الروضة وكانت مرجاً أخضر يتوسطها منخفض يحتفظ بالماء فقال: ياقاع ياقوت ليتك عندنا في الدار موجود حتى إذا صابت الأمطار ربعي يزرعونك نحط حولك حرس عشره وكل في يده عود حتى اذا فانت الجردان عنها يحرسونك يتمنى الشاعر أن لو كان هذا القاع في دياره حتى تستثمره القبيلة في الزراعة وتحميه من الجراد والآفات الزراعية. ترى كم من المواقع مااختفى تحت طائلة الزحف العمراني والنهضة الشاملة؟ إنها كثيرة. ألا يجدر بنا أن نحافظ على مسميات هذه الاماكن في مواقعها؟ كأن نسمي بها الأحياء أو الشوارع أو المؤسسات التي تقام عليها فنعرفها حين ترد في نصوص أدبية أو مواقع ذات تأريخ.