كتاب عسس لسعيد الأحمد لا يمثل حالة كتابية مختلفة لجيل ما بعد الألفين فقط.. ولكنه يمنحنا إشارة إلى أن هناك أصوات تختار الكتابة الملتبسة وتتقصد هذا الخيار في الإبداع. إنها الكتابة التي تنتج بحالة الأسئلة والمسائلة وبها بريق فلسفة الأشياء.. وفي هذا الحوار ل (ثقافة اليوم) يمنحنا سعيد الأحمد رؤيته فيما كتبه ورصده في كتاب عسس: * تأتي مفردة عسس كعنوان للكتاب.. لكنني أشعر أن المحتوى لا يأتي بهذا المعنى تماما.. فهو أقرب إلى التأمل الساخر ..هل ترى الأمر كذلك؟ - لك أن تشعر بذلك، وغيرك سيشعر أيضا بغير ما شعرت به أنت، وهذه إحدى مزايا الكتابة المفتوحة. عني؛ لا أرى ذلك بالكامل، بل أزعم أن كل أنموذج بالكتاب هو أحد نماذج العسس، أو مؤسس، أو مؤصل لفكر العسس بشكل أو بآخر. أما التأمل الساخر فتستطيع القول بأنه تكنيك سردي، أو صيغة إخراجية نوعا ما. * وجدتك أحيانا في بعض الرسائل السردية تنزلق في التعنيف واللوم الصاخب وربما الخطابية.. هذه النبرة العالية ألا تعتقد أنها لا تتفق مع حالة خلق لحياد مرجو من القارئ تجاه تلك الرسائل؟ - الكتابة الديستوبية تخلق حالتها الخاصة انطلاقا من منظورها واستنادا على وقائع ما، ولا تعنى بخلق حالة عامة من الحيادية مع القارئ. كما أنها لا ترجو القبول بقدر ما تعنى بالكشف. أما عن النبرة التي قد تعلو في مواضع وتخفت في أخرى، أو ترقّ حينا، فكل ذلك مرتبط بإيقاعات النص واحتياجاته، لا برغبات القارئ وأرضيته الثقافية أو تراكماته النفسية. انحزت إلى التجادل مع التفاصيل اليومية.. هل هذا يعني أنك تختطف مضامين قصيدة النثر وتلبسها ثوبا جديدا سميته رسائل سردية؟ التفاصيل اليومية هي زاد الكتابة المختلفة من وجهة نظري، فلم يعد بمساحات القضايا الكبرى ما يغري، وزمن الشعارات قد أفل، وإن كان لازال له شعراؤه وغاووه. لتكن قصيدة نثر، أو رسائل سردية -كما أجزم أنا- الأهم أنها تثير ما يعتقد البعض بهامشيته أو عدم أهميته، رغم سطوته والخرائب المتداعية من خلفه. * جاء في مقدمة الكتاب أنك تنسف فكرة الكتابة الإصلاحية لكنك بشكل أو بآخر تقدم بدائل في رسائلك. هل هذا يعني أنك وقعت في محظور ما كنت تنفيه عن كتابك؟ - بدائل! دلني عليها، فلم أجدها رغم اعادة القراءة بحيادية. فكتابة التقويض لا تطرح بدائل، بل تترك المساحة فارغة لقارئ يملك بدائله، أفكاره، رؤاه، وحلوله الخاصة. تستطيع أن تجد شبه منهج، غير أنك لن تجد بعد التقويض، وبين جنباته سوى مساحات بيضاء يملؤها القارئ كما شاء، وهذا ما جعل معظم صفحات الكتاب نصف فارغة من الحبر. فكل قارئ يعي معضلاته أكثر من كاتب أو مفتي، ويعرف حلوله أكثر من غيره، وما تحتاجه هو الضغط على جراحه لا أكثر، وترك مساحة كافية له ليعيد تضميدها كما يحتاج بعد ان تشارك في إشعاره بوجودها، أو اخطاره بمعرفتك أنه يعرف بوجودها. السؤال الذي يطرح هنا هو؛ هل نجا سعيد من التنظير؟ وهنا أجيبك بصراحة أنني لا أعتقد ذلك، فالكاتب والمنظر يملك ما يكفي من نرجسية تجعله يعتقد أنه يملك حلولا متكاملة لكل قضايا الأرض، بينما يغص بأصغر قضاياه الشخصية! * ماحكاية مديح الأشياء في كتابك تكررت هذه المفردة في كل فصول الكتاب، بالتحديد ماذا يعني مفهوم المديح؟ - أن تذكر اقل المساوئ سوءا فهذا مديح ربما، حيث إن كاريكاتورية النصوص في عسس تظل أقل كاريكاتورية من الواقع. لك أن تراها كذلك، أو قد تأخذها بثقافة ذكر الضد لدى العرب؛ كتسمية المعدم ب (ميسور الحال) أو الأعور ب (كريم العين). * هل نقول كتاب هو الاقتراب من فلسفة المواقف والأشياء أم هي محاولة نزقة في الكتابة لا يمكن تصنيفها؟ - لا يمكن لكتاب نادمه صاحبه عدة سنوات، أو نص نهائي سكن أدراجه أكثر من سنة ونصف أن يكون محاولة نزقة، أو ردة فعل لحظية. هذا ما أنا متأكد منه على الأقل. ومعضلة تصنيفه هي مشكلة نقاد، وهوس مدارس قولبة وتجنيس لا علاقة لها بالكاتب ورؤيته أو الخط الكتابي الذي اختاره كأنسب خيار لنصه. * إن اتفقت معك إلى حد ما في الاتكاء على معنى العسس في الكتاب.. إلا أني لم أجد المؤلف يرتد إلى ذاته لم يمارس الحالة على دواخله، كان يجادل الآخرين هاربا من ذاته، أليس كذلك؟ - من قال إن الذاتية فرض عين في النص؟ ومن الذي يجزم بأن كل نص يجب أن يحمل جزءا من ذات كاتبه؟ النص كائن حي، والكاتب كائن آخر مستقل، فإن التقيا بأشياء فلا بأس، وإن تباعدا فلا ضير، فالأهم أن تقرأ نماذجك وشخوصك بشكل دقيق وعميق كي تكون قادرا على تقديمهم بحرفية عالية. رغم ذلك، فلن أنكر وجودي في النص ووجودك أنت أيضا قبلي كأحد نماذج العسس.. أولسنا نتاج لمنظومة من تلك الأفكار والعادات والأعراف؟ * لاحظت انك استخدمت المفردات الخشنة –الدامية– أو المعنى ذات الضجيج –كأنك تريد أن تصل بها إلى قارئك– الم تكن هناك خيارات أخرى في اختيار الكلمات للتعبير عن العسس؟ - لا طبعا، لم يكن هناك خيارات أخرى أبدا. فكل نص منحت له ما يناسبه من مفردات؛ من ناحية النوع والكم، وحرصت على عدم وجود اي مفردة زائدة عن حاجة أي نص، فالنص الذي يحتاج خمس مفردات لم أضف إليه مفردة سادسة، والنص الذي يحتاج لغة خشنة لم أكبده نعومة الشعر، والآخر الذي يحتاج لغة صارمة لم أورطه في الرقة. غير ذلك، ستجد عدة نصوص تستند على الشعر، تبعا لاحتياجها أيضا، لا انجرافا خلف استعراضات الكاتب اللغوية، ولا انغماسا في غواية الكلام. * برغم من المحاولة للاقتراب من عوالم الكادحين والمهمشيين إلا أن برجوازية طافحة متأنقة تحاول تتمثل حالات البسطاء، هل أنت متفق معي في هذا الأمر؟ - بل أختلف معك جملة وتفصيلا، في الشق الأول من السؤال طبعا، لا في الثاني. فالكتاب لا يتطرق لنماذج كادحة مهمشة أو معدمة، بل في مجمله يتعاطى الطبقة الوسطى بشقيها الأدنى والأعلى: middle class and the upper middle class كونها الطبقة المؤثرة في تأصيل الثقافة الجمعية وسقيا فسلات الأعراف. منذ متى والمعدمون والجوعى قادرون على صنع العرف أو التكريس للمفاهيم؟