تحلق العرب كل عند تلفازه لسماع خطبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما مثلما تحلقوا ذات مساء وحتى بزوغ الفجر أيام انتخابه، فهللوا وكبروا عند فوزه، حيث سمعنا حينها أحاديث وأقوالا، عجيبة، بل إن بعضهم ذهب إلى حد اللامعقول، في تكهنه تماماً كأبطال اللامعقول في مسرحيات الكاتب الشهير أونيسكو..! فبعضهم قال إنه أفريقي من أصول عربية .. وبعضهم أصر على أنه مسلم يكتم إيمانه، وأن اسمه الحقيقي مبارك بن حسين أبو أمامة، فاسم باراك محرف عن مبارك وأوباما أصلها أبو أمامة، وأن الرئيس " أبو حسين" سيقف موقفاً منصفاً ، إن لم نقل منحازاً إلى جانب العرب والمسلمين .. وقبل أيام وعندما القى خطابه في جامعة القاهرة تجادل العرب فيما بينهم كعادتهم في كل شيء فهم مولعون بالتحليل والتعليل ، والذي عادة لا ينتهي إلى حقيقة بقدر ما يرضي لديهم رغبة وشهوة التكهن ... لا شك أن أوباما رجل مثقف ، وصاحب عقل وذكاء مُلفت ، وصاحب شخصية متميزة ، ولديه تجربة إنسانية مختلفة نابعة من وعيه القديم وربما المتوارث بفعل الظلم والعبودية ، والاسترقاق..ولاشك أيضاً أن لأوباما حضوره الخطابي الذي يمثل نموذجاً لشخصية أو" كاريزما" الرجل المنتمي إلى ثقافة وخطاب الإنسان الملون ، وكأنه يعيد لنا سيرة الزعيم الأسود "لوثر كنج" ، كل هذا صحيح بل وفوق ذلك فقد لا يكون للرئيس "أوباما" موقف سلبي مسبق تجاه العرب والمسلمين ، كسابقه " بوش" والذي كان ينطلق من رؤيا توراتية انجيلية توارثها عن أجداده . لكن أوباما في النهاية هو مواطن أمريكي، هو مُنتج أمريكي وهو صناعة أمريكية ، ووصل إلى السلطة عن طريق الناخب الأمريكي ، فأمريكا وطنه وهو رئيسها ومصالحها فوق كل اعتبار وفوق كل عاطفة .. وإذا كان "أوباما" قد خلب عقول كثير من العرب والمسلمين بخطابه الذكي، فهذا هو ما تطلبه الإدارة الأمريكية وتسعى إليه ؛ فالولايات المتحدة تورطت في حروب في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ، لا مبرر لها وليست ولن تكون مطلقاً في صالحها . وهذا طبعاً ما جرته سياسة "بوش" التي كانت تمارس العنف والصلف، والفوقية .. هذه الحروب الرعناء جرتها إلى خسائر مادية فادحة، وخسائر معنوية شوهت سمعتها وأورثتها الكراهية والبغضاء في نفوس الآخرين .. وهذا ما جعل أمريكا قريبة ومتواجدة في الأرض والسماء ولكنها بعيدة جداً عن قلوب الناس ، لأن سياسة الكره والاكراه لاتجرّ إلا كرهاً وراءه كره.. واعتقد أن من أهم مهام الرئيس "أوباما" أن يحاول إعادة تبييض الوجه الأمريكي الذي سوّدته بلا شك سياسة "بوش". ولاشك أن غسيل وتنظيف السمعة الأمريكية يحتاج إلى جهد شاق، وإلى شخصية ذات جاذبية خاصة، ولغة مفعمة بالعواطف التي تحرك الوجدان ، وتلامس المشاعر العطشى إلى مثل هذه اللهجة الإنسانية، البعيدة عن الوعد والوعيد والتحقير والتهديد .. كان بوش يتحدث عن صدام الحضارات ، وعن تغيير الخرائط السياسية في المنطقة، وعن الدبابة الأمريكية التي لا تقهر، بينما تحدث أوباما عن تصالح الحضارات ، بدلاً من تصادمها، وعن احترام الثقافات والأخلاق والقيم الموروثة بين الأمم، بدلاً من فرض الثقافة الواحدة، واللغة الواحدة، والاقتصاد الواحد، واحترام سيادة الدول بدلاً من التهديد بتقسيمها .. وهذا هو الفارق بين شخصية الاثنين .غير أنه من السذاجة أن تُعتبر إنسانية أوباما فوق حقوق زعامته، من السذاجة أن نظن أنه سيغلب إنسانيته على مهامه كزعيم أمريكي... ثم إن الرئيس الأمريكي لا يمثل نفسه فيما يقول ومن ثم فإن خطابه ليس خطاباً ارتجالياً يتسم بالشاعرية والرومانسية ...كلا.. فمضامين الخطاب في أصلها تخرج من مطبخ البيت الأبيض ومستشاريه قبل أن يتفوه بها الرئيس ... من المؤكد أن أوباما رئيس أمريكي مختلف جداً في خطابه ، وفي حواره، وفي منطقه السياسي، والإنساني ومن المؤكد أنه يحمل قلب إنسان وليس قلب وحش .. ومن المؤكد أن أمريكا مضطرة إلى إعادة صياغة سياستها وخطابها نحو شعوب المنطقة فيما يحقق مصالحها.. ولكن بين هذا وذاك أين تقع مصلحة المنطقة وشعوبها.؟ كيف لنا أن نستشرف مستقبلها، واتجاهاتها ؟ هل هي متجهة نحو الاستقرار والتفاعل مع أمريكا والدول الأخرى بشكل متوازن يكفل لها أمنها وتفاعلها الأممي.. أم أنها ستستمر في وضعها الراهن وستبقى دوماً منطقة للصراع ، ومضماراً للمراهنات والألاعيب السياسية ؟؟... الإجابة هي التي بالضبط سوف تحدد لنا شخصية ونوايا الرئيس باراك أوباما ..