هل يمكن للإنسان الفرد أو الجماعة، أن يفهم نفسه بدون الآخر.. وهل يستطيع الإنسان أن يستغني عن الآخر.. أم العلاقة بين الذات والآخر، من العلاقات المركبة على المستويين الفردي والجماعي، بحيث إنه لا يمكن فهم الذات إلا بفهم الآخر.. وبالتالي فإن العلاقة بين الذات مهما كان عنوان تعريفها، هي بحاجة إلى الآخر مهما كان عنوانه وتعريفه.. فإذا كان عنوان الذات دينيا، فإن هذه الذات بحاجة ماسة لفهم ذاتها وللعيش الإنساني السليم مع الآخر الديني. وإذا كان عنوان الذات قوميا أو عرقياً أو مذهبياً، فإنه لا يمكن لهذه الذات من إدراك حقائق الحياة بدون نسج علاقات سوية مع الآخر.. فالآخر بكل دوائره، هو مرآة الذات بكل دوائرها.. ومن يبحث عن ذاته، لا يمكن القبض على حقيقتها وجوهرها بدون استيعاب الآخر وفهمه وإدراك حاجاته ومتطلباته. فالآخر هو مرآة الذات، ولا ذات حقيقية بدون آخر حقيقي. لذلك فإننا نعتقد ومن منطلق فلسفي ومعرفي إن كل دعوات الاستغناء عن الآخرين مهما كانت مبرراتها ومسوغاتها أو عناوينها، هي دعوات لا تنسجم ونواميس الحياة الإنسانية.. فدعوات نفي الآخر واستئصاله، لم تؤد ولن تؤدي إلا إلى تشبت الذات بكل خصوصياتها وحيثياتها المباشرة وغير المباشرة. لذلك فإننا نرى أن كل الأيدلوجيات والنزعات الاصطفائية والتطهيرية، لم تفض إلا إلى المزيد من بروز الهويات الفرعية والخصوصيات المراد طمسها وتغييبها. وعليه فإن الآخر الديني هو ضرورة وجودية للذات الدينية. كما أن الآخر المذهبي هو ضرورة وجودية ومعرفية للذات المذهبية وهكذا بقية العناوين ودوائر الانتماء التي تحدد معنى الذات والآخر.. فالذات التي لم تتجاوز حدودها على أحد تعبير الكاتب المصري سمير مرقص، مهما كان ثراء هذه الذات ومهما حملت من خبرات، تظل في حاجة كيانية - ماسة إلى أن تعبر هذه الحدود انطلاقا من احتمالية أن الآخر قد يحمل ثراء وخبره لم تعرفها أو قد تدركها ا الذات من جهة، وإن استمرار الذات في الوجود يعتمد إلى حد كبير على اختبار ما لدى هذه الذات من غنى وخبرة بالتفاعل أو باكتشاف على الأقل ما لدى الآخر من جهة أخرى. والآخر بحكم التعريف هو مغاير للذات، ويظل منطقة تحتاج إلى الإدراك. والذات في عملية خروجها إلى الآخر اكتشافا إنما تعيد اكتشاف نفسها، وربما تبدأ في إدراكها. والذات لا يمكن أن تكون ذاتا إلا بوجود الآخر. فمن يبحث عن اكتشاف ذاته، ومعرفة منظومته القيمية والثقافية، فعليه بالتواصل مع قيم الآخرين ومنظوماتهم الثقافية. فالعزلة والانكفاء لا يقودان إلى اكتشاف الذات، حتى ولو كان خيار العزلة خيارا أيدلوجياً. والنظرة النرجسية إلى الذات وقيمها وما تملك من مبادئ ومعارف، فإنها لا تؤدي أيضا إلى إدراك وفهم حقيقة الذات الثقافية والقيمية.. وذلك لأن النزعة النرجسية لدى الإنسان، تقوده إلى شعور وهمي بالاستغناء عن الآخرين بكل معارفهم ومكاسبهم العلمية والحضارية. فلا العزلة تقود إلى الفهم واكتشاف الذات، كما إن الاستغناء عن الآخرين، والتكور والتمحور حول الذات، لا يفضي إلى اكتشافها، وإنما يفضي إلى بناء صورة نمطية حول الذات، ليست قادرة على استنهاض الإنسان واكتشاف قدراته وطاقاته الكامنة. وحده التواصل والانفتاح هو الذي يقود إلى اكتشاف الذات. من هنا نصل إلى حقيقة اجتماعية وحضارية مهمة. وهي أن العزلة والانكفاء، ليست هي وسيلة الدفاع الحضارية والثقافية عن الذات، بل هي تعتبر وسيلة للهروب من استحقاقات الراهن. ولم يسجل لنا التاريخ تجربة إنسانية عن مجتمع، تمكن من حفظ ثوابته وصيانة مكتسباته من خلال الانكفاء والانعزال. ويبقى الانفتاح الرشيد والتواصل العلمي والثقافي والاجتماعي، بين مختلف التعبيرات والمكونات، هو وسيلة الدفاع عن الذات. فالتمسك بالثوابت والدفاع عن الخصوصيات، لا يمكن أن يتحقق بانغلاق الذات، وإنما بانفتاحها وتواصلها المستديم مع الآخر. ومهما كانت التباينات ونقاط الاختلاف، لا مبرر حقيقي للانكفاء والانعزال.. بل على العكس من ذلك تماما... ولا يمكن إدارة الاختلافات الدينية والمذهبية والفكرية، بدون تواصل المختلفين مع بعضهم البعض.. لهذا كله فإننا نعتقد وبشكل عميق أن اكتشاف الذات يتطلب الاهتمام بالأمور التالية: إن الإنسان مهما امتلك من إمكانيات وكفاءات وطاقات، لا يستطيع أن يحقق ذاته ويعزز مكاسبها العامة، بدون نسج علاقات طبيعية وسوية مع محيطه الاجتماعي والثقافي والوطني.. فالإنسان السوي لا يمكنه الاستغناء عن الآخرين وإنما من الضروري أن ينسج علاقات سوية معهم. ولا ريب أن بوابة هذه العملية هو الانفتاح والتواصل والتعاون مع الآخرين. فالعلاقة شرطية وجدلية في آن واحد (على حد تعبير الكاتب سمير مرقص) بين الذات والآخر. وهذه العلاقة غاية في التعقيد، حيث يصبح الآخر شرطا لتحرر الذات من ذاتية عمياء لا ترى إلا نفسها – وربما لا تراها – ومن ثم تحمل نهاية لصيرورتها، وهنا يكمن البعد الشرطي في العلاقة. وفي الوقت نفسه فإن تحرر الذات من حدودها والخروج إلى الآخر، إنما يعني التجدد بإدراك نقاط القوة لدى الآخر والتي تعني نقاط الضعف لدى الذات ما يعني تحقق البعد الجدلي في العلاقة،والعكس صحيح بطبيعة الحال. هذا بالإضافة إلى تصحيح الصور النمطية أو الرؤى سابقة التجهيز التي يشكلها كل طرف من الطرفين – الذات والآخر – بعضهما عن بعض.. إن الآخر المختلف، ليس موضوعا للنبذ والإقصاء والسباب والشتيمة، وإنما هو موضوعا للحوار والتواصل والتعارف. وإن الاختلافات والتباينات مهما علا شأنها، لا تشرع لأحد ممارسة الحيف والظلم بحق الآخر المختلف. فالمطلوب من كل الأطراف، ليس التنابز بالألقاب، وممارسة سوء الظن المتبادل، وإنما المطلوب هو ممارسة العدل تجاه بعضنا البعض.. ولا يمكن أن نحقق مفهوم العدل في العلاقة مع المختلف، بعيدا عن قيم الحوار والتواصل والتعاون.. فليس عيبا أن نختلف، لأن ذلك من لوازم الحياة الإنسانية، ولكن العيب كل العيب حينما يقودنا هذا الاختلاف إلى الخصام والعداء المتبادل.. فتعالوا جميعا من مواقعنا الفكرية والثقافية والاجتماعية المتعددة والمتنوعة، أن نمد أيدينا لبعضنا البعض، ونطرد من واقعنا كل أسباب الإحن والبغضاء، ونتعاون مع بعضنا البعض لإرساء معالم وحقائق الاحترام المتبادل وصيانة الحقوق والحفاظ على أسباب الوئام وموجبات الاستقرار والتضامن.. 3- حين الحديث عن ضرورة نسج علاقات إيجابية بين الذات والآخر، وإن جميع مكونات وتعبيرات المجتمع الواحد، من الضروري أن تنفتح على بعضها، وتتواصل اجتماعيا ومعرفيا.. فإننا ندرك وبعمق أن التوجيهات الأخلاقية بوحدها، لا تصنع هذه الحقائق، ولا تبني العلاقات الإيجابية بين مختلف الأطياف والتعبيرات.. لذلك فإننا نعتقد أن تنمية فضاء المصالح المشتركة، بين مختلف المكونات والتعبيرات، هو الذي يساهم مساهمة رئيسية في تعزيز التواصل والعلاقة.. فحينما تكون مصالح الناس متباعدة، فإن التوجيهات الأخلاقية، ستعالج في الحدود القصوى بعض الحالات الفردية. أما إذا كانت شبكة المصالح اليومية بين الناس متداخلة، فإن هذه الشبكة بمتوالياتها ومقتضياتها المتعددة، ستفرض واقعا جديدا على صعيد العلاقات الداخلية في المجتمع الواحد. وتأتي التوجيهات الأخلاقية، لتضيف إلى هذا الواقع نزعة أخلاقية – روحية، تساهم في ضبط العلاقة اليومية، وتخرجها من دائرة العلاقة بين الأجساد والعقول، وتدخلها في رحاب الروح والالتزامات الأخلاقية.. إننا نشعر بأهمية أن تكون العلاقة بين تعبيرات المجتمع إيجابية وحسنة، ومتجاوزة لإرث القطيعة والانفصال. ولا سبيل حيوي وفاعل لذلك إلا بتوسيع شبكة المصالح المشتركة بين مختلف الأطراف.. بحيث يشعر الجميع، أن مصلحة الجميع تقتضي، التمسك بكل أسباب الانسجام الاجتماعي والتضامن الوطني.. وصفوة القول: إننا ينبغي ألا نذعن إلى إكراهات القطيعة ومناخات المفاصلة والجفاء بين أطياف المجتمع والوطن، ونعمل من مواقعنا المتعددة على إشاعة أجواء التفاهم والتواصل، ونوفر كل الأسباب المؤدية إلى بناء علاقة إيجابية وحيوية ومتضامنة بين جميع المكونات والتعبيرات..