رِجلاً على رجل، يرتشف فنجان القهوة في أحد المقاهي البرجوازية، يدبج صديق لنا يتقن الثقافة بهيبة لباسه وأناقته، وبالطبع قلمه المونت بلانك، مشكلة غزة والمحرقة التي افتعلتها إسرائيل هناك، بسبب نزق حماس وإصرارها على مفهوم المقاومة، والتي سبق وأن أكد غاندي عدم جدواها، ثم يرتشف رشفة أخرى لكنها رشفة حزينة بسبب عدم نجاح إسرائيل في استئصال شأفة حماس، وأن حلم التعايش مع اليهود يبدو غير وارد في القريب العاجل. سيظن البعض أن هذا الصديق مستغرب محترق، عديم الإحساس، مثالي حالم، مهزوم نفسياً، فاقد لأقل الولاء لقوم يجمعهم به العرق العربي على أقل تقدير، ودون جدال في مجمل ما سبق، فإنني أؤكد بأن صديقنا المثقف مرهف الإحساس، فقد تخضبت وجنتاه بالدموع كما يروي في جلسة بروجوازية سابقة، عندما شاهد فيلم "قائمة شيندلر" لستيفن سبيلبيرح، الفيلم الذي يروي وقائع جزء من الهولوكست الذي حاق باليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو تصرف طبيعي من وجهة نظري بسبب قوة تأثير الفيلم، لكنه يبدو اعتباطياً مقابل المشاهد الحقيقية التي عرضتها الفضائيات لأطفال غزة ونسائها وشيوخها الذين هدمت فوقهم أسقف المدارس والمساجد، وهو يبدو اعتباطياً عندما تكون تلك المشاهد تنقل حية مباشرة من أرض المحرقة، وهو يبدو اعتباطياً عندما تكون تلك المشاهد لا تعتمد على ذاكرة تاريخية تتلاعب بالحقيقة لمطامع سياسية، وإنما تعتمد على تاريخ حي يشهد به العدو قبل الصديق بإحصائيات تتسارع اللحظة تلو الأخرى على مرأى ومسمع العالم. أليس محزناً أن يكوّن الإنسان ثقافته، من مجموعة أفلام تتجاذب رواياتها في الغالب، الاتجاهات السائدة للثقافة الغربية، القناعات المبنية على توجهات سياسية، التحويرات التي تستلزمها الضرورة السينمائية من الاختصارات والاختزالات، الرؤى الإخراجية الخاصة والتي لا تتبع منهجاً تاريخياً صارماً في تقييم أو عرض الحقائق!.