تواصلاً مع ما سبق ذكره عن صنع المستقبل المزدهر - الذي يتطلب شروطاً لابد من توفرها لتحقيقه. لقد استعرضت بعض تلك الشروط، واشعر - مهما كانت تفاصيل هذه الشروط - ان الالحاح في الدعوة الى اهمية متابعة النظر لأحوالنا يعني مدى اعطاء الاولوية للتبصر والتدبر نحو ايجاد الحلول لكل ما يعترض تحقيق الآمال المعقودة على أجيال الغد المأمول. ٭٭ ٭٭ ٭٭ اني لأشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتق قياداتنا التربوية - ولاسيما حينما اطالع صحفنا اليومية فأجدها حافلة بالمقالات التي يعبر فيها اصحابها عن رؤاهم وتطلعاتهم، ومآخذهم - من وجهة نظرهم - على بعض الممارسات التربوية. وهذا من دواعي الفخر.. والرضا ان يكون مجتمعنا بهذا الحد من التواصل والاهتمام بالتربية والتعليم.. ومعلوم انه ليست كل الآراء صائبة، ولا كلها خاطئة.. لكنه تواصل يبشر بالخير الكثير، ويوحى بانفتاح المجتمع، وتبصره بقضاياه.. وفي مقدمتها قضايا المدرسة، والمعهد. لكن على صاحب الرأي ألا يتعصب لرأيه.. ظاناً أنه هو الحق، والصواب - وألا يظن الناس - أيضاً - ان المسؤولين عن التربية يهملون ما يكتبون عنها من قضايا، فبعضها يؤخذ في الحسبان، وبعضها يتعذر تطبيقه، إما لعدم مناسبته، أو لأسباب اخرى. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وبالتأكيد فإن الجميع مدركون ان قضايا التربية والتعليم ليست بالسهولة المتوقعة، وليس عند المسؤول مهما كان اقدامه عصاً سحرية كالتي وهبها الله لموسى - عليه السلام - يغير بها الامور في زمن قصير.. ذلك لأن العملية التربوية يقوم بها بشر كثيرون في عددهم، مع اختلاف منطلقاتهم الفكرية، والطباع، والكفاءة العلمية والعملية. وكلما قرأت هذا العدد من الآراء المتفاوتة في صحفنا المحلية، والخارجية أردد قول الشاعر: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها ٭٭ ٭٭ ٭٭ وبعد هذا دعونا نسأل انفسنا عن مدى الاقبال على التزود بالعلم النافع، وألح على كلمة النافع، والتحلي بالتربية السامية، والدراية بالفضائل وتطبيقها.. خاصة واننا في زمن أهله عالم متنافس، ويحيط به العديد من المشكلات: العنف، والتطرف والمخدرات، كل هذا قد أوجد لنا العذر كله أو بعضه في التعجل لدعوة للانقاذ التربوي العاجل. يتمثل ذلك الانقاذ في السعي لتحقيق تربية سليمة «وغرس، وصيانة للفضائل الاساسية في اجيالنا الجديدة.. والتي بدونها قد يستحيل علينا الخروج من المآزق المعاصرة.. وربما أي مآزق مستقبلية قد يتكشف عنها هذا القرن الحادي والعشرون. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وينبغي لي في هذا المقام أن أقرر بعض ما احسبه أموراً احترازية: أولاً: ان الحديث عن مستقبل مؤسسات التربية والتعليم على اختلاف مستوياتها ومراحلها، وسبل تطويرها وتجديدها يجب ألا ينفصل عن التربية في اطارها الثقافي، العلمي، الاجتماعي، الذي تنتمي إليه، وتؤثر فيه، وتتأثر به، إذ انها شديدة الارتباط بنوعية الثقافة، والحياة المحيطة بها. ٭٭ ٭٭ ٭٭ ثانياً: ان الدعوة لقيام المجتمع الدائم التعلم لا تعني بذلك مجتمع المدرسة وحده، بل انها دعوة تمد النظر إلى المؤسسات ذات العلاقة بالتوجيه والتربية على امتداد مؤسسات المجتمع المؤثرة في ثقافته ونوعية الحياة فيه، وأهم تلك المؤسسات على الاطلاق «المساجد، ومؤسسات الدعوة والارشاد، والمؤسسات الإعلامية». فالتربية، والثقافة، والعلوم، والإعلام، نسيج حي تتفاعل خلاياه، وتتشابك لتمنح في تآزرها الحيوية، والحركة، والحياة لجهودنا في بناء الانسان من خلال العمل التربوي الجامع لكافة القيم والمعايير والعناصر تشارك في تحقيقه كل المؤسسات المجتمعية دون تناقض في مضمون التوجيه ووسائل الارشاد. ٭٭ ٭٭ ٭٭ ثالثاً: ان العمل على تحقيق مستقبل تربوي أفضل ينبغي ان يكون نتيجة معرفة بالحاضر، فنحن نعلم ان الحاضر حصاد الماضي، وان المستقبل ثمرة نوعية العمل في الحاضر، فالماضي، والحاضر، والمستقبل عمر الشعوب وحياتها، وهو كل متصل متفاعل يقود بعضه الى بعض، لكننا ندعو اليوم الى مدخل جديد لتناول هذا الكل المتصل. ٭٭ ٭٭ ٭٭ رابعاً: ان أمام بلادنا - مثل كل البلاد الاخرى - الف مستقبل ومستقبل، يتوقف حدوث كل منها على ما نفعله أو لا نفعله في حاضرنا.. وتحقيق الاهداف التي تسعى المجتمعات لتحقيقها لا يسقط عليها من السماء، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. فقانون السماء الخالد أن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. فالقرارات والجهود والسلوك الذي نبذله اليوم يحدد صورة المستقبل الذي ينتظرنا. ٭٭ ٭٭ ٭٭ خامساً: ان العمل المشترك من كل مجتمعات الوطن العربي واقطاره في كل الميادين وبخاصة ميدان بناء الانسان، وثقافته، ومهارته شرط لازم لنجاح التطوير. انه نداء من الله، وحتمية يفرضها التاريخ والواقع، ومطلب تلزمنا به طبيعة الحياة في عصر الكيانات الكبيرة، والصراعات والتنافس، ووسيلة اساسية لتحقيق اهداف التنمية والحياة الكريمة، وهي اهداف لا يمكن ان تتحقق الا من خلال تعبئة شاملة للامكانات، وتنسيق بين الجهود، وتكامل في ادائها، ولذا أقامت دولنا جامعة الدول العربية وما انبثق عنها من منظمات حكومية متخصصة مثل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وليعذرني قرائي على الجنوح الى طلب ما يقارب الكمال، وهذا ما كنت اقوله لزملائي من المعلمين والمديرين في اللقاءات المتكررة: «لقد صوبت الى النجوم واستهدفت منها السها، وتوسعت بالأمل في كل العناصر ذات العلاقة بتنمية الانسان وتربيته في بلادنا، والكلمة مسؤولية، وتطلعت حولي، وفكرت، فرأيت اخوة لي واخوات في كل موقع من عالمنا العربي والإسلامي يملأ قلوبهم المؤمنة أمل أكبر، ولم أقابل أحداً من الاشقاء من غير السعوديين إلا رأى أن الأمل معقود على وطننا السعودي بأن يكون نظامه التعليمي أمثل النظم التعليمية، وأفضلها، كي يكون انموذجاً يحتذي به الاشقاء، وليتنا نبلغ ذلك المبلغ». ٭٭ ٭٭ ٭٭ إن مقولة (وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة). (ووراء التربية العظيمة معلمون قادرون مخلصون مؤهلون) لم تأت هذه المقولة من فراغ - بل إنها ثمرة استقراء لماضينا الحافل بالنجاحات في كل الميادين - وماضي أمم مثلنا، وحاضر لدول شهدت تطوراً مذهلاً في جوانب الحياة كافة (اقتصادية، سياسية، اجتماعية)، ومرد ذلك كله الى عمل تربوي عظيم متكامل، وراءه معلم مؤهل، مقدر من مجتمعه. ٭٭ ٭٭ ٭٭ لقد نظرت، وفكرت وتراءى لي اطفالنا فرأيت بريق الصدق، وطهارة القلب، وعيوناً تلمع بالذكاء تنادينا أن نقوم بمسؤولياتنا لنهيئ لهم فرص صناعة مستقبل أفضل، واسترجعت تاريخا لنا على هذه الأرض، استطاع ان يخرج من بين اجزاء الصحراء، وجنانها وبداوتها قلوباً ندية، زرعت الحاضر، وأثرت تجربة الدنيا، واهدت للوجود بقرآنها أرفع نماذج الانسانية، وتردد امام عيني وسمعي ان كل ما طالبنا به الرحمن في مواجهة التحديات ان نبدأ (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون). ٭٭ ٭٭ ٭٭ وأرجو ألا يفهم من إلحاحي على تدبر ماضينا المزدهر انه تشبث وتعلق بماض نكتفي بما حققناه فيه، بل هو تطلع لمزيد من هذا المجد التليد الذي لن يتعذر تحقيقه بالهمة المخلصة - والتمسك بالقيم الفاضلة - مرددين قول الشاعر: أنا وإن أحسابنا كرمت يوماً فلسنا على الاحساب نتكل نبني كما كانت اوائلنا تبني، ونفعل مثلما فعلوا بل إن احسب ان الله قد هيأ لنا من أسباب التفوق، وبلوغ المجد ما لم يكن لسابقينا.. وانه لاعذر لنا في التقاعس عن تحقيق المزيد من الامجاد والتطلعات لمستقبل يواكب العالم المتطور حولنا، بل ويسبقه. ٭٭ ٭٭ ٭٭ استدراك: أشكر للإخوة الكرام قراء مقالاتي.. وقد رأى أحد الاخوان عدم دخول الباء في (بهكذا) ولكن ليس هناك في كتب اللغة ما يمنع ذلك ومنه قوله تعالى: (وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين..) وتحياتي للجميع. وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وامدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.