إحدى فرضيات التحول المتوقعة في الحياة الفكرية لمجتمعنا هي معرض الكتاب الذي عقدت فعالياته خلال الأيام الماضية، هذه الفرضية تقول كما أتصورها: انه كلما زاد عدد الفعاليات الفكرية في المجتمع كانت إمكانية الانعتاق من هيمنة ثقافة مركزية أمرا ممكنا، وممهدا لعمليات التحول الفكري الايجابي للمجتمع وإحداث التطورات الفكرية وتأسيس التعددية الفكرية والثقافية. فعملية إدارة الثقافة في المجتمع ليست عملية ظاهرة لجميع الأفراد في المجتمع ولكن الفرد هو أكثر المتأثرين من الكيفية التي تدار بها التنمية الثقافية، فالانعكاسات الايجابية أو غيرها تصل إلى الفرد مباشرة قبل المؤسسات المسؤولة عن التنمية الثقافية وسوف أحاول شرح هذه القضية من خلال فعليات المعرض خلال السنوات الماضية. معرض الكتاب كظاهرة ثقافية هو نتيجة منطقية لرغبة لدى المجتمع تم التعبير عنها بهدف إحداث تغيير وتجربة مصادر ثقافية مختلفة عن تلك التي اعتاد عليها المجتمع، في مجتمعنا لابد أن ندرك ان أهداف معرض الكتاب الحالية تختلف كليا عن أهداف مثل هذا المعرض في مجتمعات أخرى فلم نصل بعد إلى اكتمال الأهداف الثقافية الفكرية لمعارض الكتاب بشكلها المنهجي. نحن لازلنا في مرحلة الأهداف الخاصة بالثقافة المجتمعية لمعرض الكتاب وهي مرحلة القبول والرفض والخيارات المتعددة لنوعية الفكر والثقافة التي نجلبها إلى المعرض، فخلال السنوات السابقة يلاحظ المتابع لمعرض الكتاب في دوراته القليلة الماضية أن غرس ثقافة تنويع المصادر الفكرية هي الأكثر ورودا بين أهدف المعرض. لهذا السبب كان لابد من حدوث صراعات ورفض للجسد الجديد في ثنايا الثقافة التقليدية وهذا عمليا أمر محتمل، فتلك الثقافة مارست ولفترات طويلة احتكار إنتاج الثقافة وتوزيعها للمجتمع، ولولا قدرة العولمة وحثّها المتواصل للمجتمع والمنتجات الحضارية بجانب الأحداث السياسية في العالم اجمع، لما استطاع احد حتى الحديث عن فك ذلك الاحتكار الثقافي. لقد فوجئت الثقافة التقليدية في المجتمعات المحلية والإقليمية أيضا بقدرة العولمة على مزاحمتها وفك احتكارها الثقافي وسيطرتها على نوعية وكمية المنتجات الفكرية اجتماعيا، وهذا ما جعل ردود الأفعال من جانب الثقافة التقليدية ردودا منفعلة وصلت في أحيان كثيرة إلى استخدام العنف الفكري عبر استخدام الفتاوى أو استخدام الجسد للتعبير عن حالة الاندهاش من القدرة على اختراق الثقافة التقليدية. خلال السنوات الماضية لا يمكن أن نقول انه كان هناك معارض للكتاب بالمعنى المطلق في مجتمعنا فكل ما هنالك هو عملية تأسيس للتحول الثقافي مقرونة بمحاولة جادة لإعادة رسم للوحة الفكرية التي اختفت بفعل عوامل التعرية والتشويه، ولكن هذا مشروط باستمرار هذا التأسيس وديمومته في مقاومة التقليدية الثقافية، لذلك اعتقد أننا لازلنا نجري عملية زراعة ثقافية معقدة خلال سنوات المعرض السابقة ولكن ذلك مؤشر ايجابي يدل على اختيارنا السليم لكيفية معالجة الثقافة ورسم اتجاهها. خلال هذه العملية حدث الكثير من الآثار الايجابية والسلبية وتم اختبار أشكال كثيرة من المهارات الثقافية للحصول على فرصة واحدة لزراعة خلية ثقافية في الجسد التقليدي، فهذه الزراعة ستكون بمثابة حقنة التطعيم للوقاية من مرض أحادية الثقافة، نحن الآن في مرحلة لم تنته بعد من إكمال كل التطعيمات الفكرية اللازمة لإصدار شهادة فكرية وثقافية تعكس تعرض الثقافة المجتمعية لدينا لكل الخطوات الوقائية اللازمة لإعادة بناء ثقافة جديدة. الجوانب الايجابية كانت واضحة في تحريك الجسد الثقافي للمجتمع وجعل الحدث مناسبة يمارس فيها المجتمع بعض طقوسه المفقودة في الثقافة التقليدية، ولعلنا هنا نتساءل عن الإنتاج الثقافي الذي ارتبط بظاهرة معرض الكتاب في المجتمع.. هناك حقيقة لابد من الانتباه إليها تقول: إن إنتاج الثقافة التقليدية (المتشددة والمعتدلة) الفكري لم يكن حاضرا بقدر حضور انفعالاتها خلال معارض الكتاب منذ قيامها لأول مرة. لقد انشغلت الثقافة وخصوصا الجانب التقليدي منها بالاعتراض اللفظي أحيانا والاعتراض التغييري أحيانا أخرى بينما مارست الثقافة الحديثة والمتطلعة للتحول الاجتماعي دورها لمزيد من زراعة خلايا فكرية جديدة في الجسد التقليدي للثقافة. لم يكن الإنتاج الفكري التقليدي الذي ظل يدافع عن نفسه لعقود طويلة في محاولة إثبات انه الأصلح للمجتمع حاضرا أبدا، سواء من خلال الانفعالات التي عبر عنها بالبحث عن آلية لمصادرة العناوين والكتب أو من خلال اعتراضه الفكري على المنتج الثقافي. لم تكن التقليدية غائبة حتى في طريقة مصادرة العناوين المعروضة من الكتب حيث عبّرت ممارسات المنع والمصادرة عن أنها بنيت على موقفين الأول: مرتبط بفكرة مسبقة عن أفراد بعينهم، الموقف الثاني يعتمد على قراءة الفهارس الخاصة بالكتب ومن ثم تقييمها من خلال رسومات العناوين ودلائلها وفقا للفهم التقليدي لها. على الجانب الآخر نجح الكثير من المثقفين في المجتمع في عملية استفزاز كبيرة للتقليدية الثقافية والفكرية في المجتمع فالمتابع يلحظ أن الإنتاج الفكري خلال السنوات الماضية وخصوصا الإنتاج (الروائي) اعتمد على إثارة قضايا حساسة لا تلبث أن تجد رواجا اجتماعيا نتيجة لردود الأفعال المجتمعية المضادة لها. لقد أصبحت وسيلة المصادرة والمنع احد أهم مؤشرات نجاح الكتب في استثارة الاعتراض عليها من جانب الثقافة التقليدية. كان المتوقع وهو المطلوب مستقبلا عندما ندخل إلى مرحلة الأهداف الحقيقية لمعرض الكتاب أن تكون الثقافة والفكر هما مصدر المنافسة بين المختلفين عبر الإنتاج الفكري ولكن ما حدث وهو أمر محير اجتماعيا بل يعكس مؤشرات اجتماعية تستحق التوقف حول آلية وجود الثقافة التقليدية في المجتمع خلال السنوات الماضية. إن الكتب التراثية أو الكتب المنتجة من قبل الثقافة التي كانت مسيطرة خلال العقود الماضية لم تعد جاذبة بل إنها لم تعد قادرة على لعب نفس الدور الذي كانت تؤديه في الماضي، ولعل السبب هو تحول الثقافة التقليدية إلى ممارسة الانفعال بدلا من ممارسة الإنتاج. إنني أتوقع أن تتخلى التقليدية عن دورها في الأعوام القادمة لتلعب دورا أكثر يعتمد على فرضية تقبل التعددية وقبول المختلف وهذا ما سوف يساهم في تغيير الخطاب التقليدي إذا كان يريد الاستفادة من فرصة مرور المجتمع بطريق التحول. الجيل الجديد من المعتدلين مطالب بأن يدخل إلى المساحة الفكرية لكي يفرض خطابا مستقلا عن فرضية السيطرة المطلقة فما سوف يحدث خلال السنوات القادمة هو أن مزيدا من الانفتاح سيفرض نفسه على المجتمع ليس بفعل انحسار الثقافة التقليدية كما يتوقع الكثيرون ولكن بفعل انتشار المزيد من الانفتاح على العالم. سوف تلعب العولمة دورا اكبر وخصوصا مع التغيرات العالمية والثقافية بالإضافة إلى السبب الحقيقي وهو أن المجتمع لدينا تتضاعف فيه نسبة صغار السن نموا والذين يشكلون أغلبية المجتمع وبشكل تصاعدي وسوف يكون عددهم كبيرا حتى منتصف هذا القرن كما تقول التنبؤات السكانية. كما أن تبادل الاستفزاز بين الحداثة والتقليدية على جميع المستويات سوف يتم تجاوزه بمجرد إدراك الطرفين أن الجيل الجديد من الشباب لم يعد يعتدّ إلا بثقافة ترسم آلية تواصله مع العالم والثقافات المختلفة والحوار معها. ولن أكون متشائما إذا ما قلت إن كلا الثقافتين التقليدية والحداثة عليهما مراجعة الواقع الاجتماعي ليس من خلال علاقتهما به من الداخل ولكن من خلال علاقة الخارج بهذا الواقع وأفراده ، وسوف يأتي اليوم الذي يتحدث عن توقعي هذا بكل وضوح لذلك فما علينا فقط سوى الانتظار والصبر لقليل من الوقت.