لا اعلم تحديدا لمن أعطي المسؤولية في قضية غياب التنمية الثقافية القادرة على إدارة المجتمع فكريا وتنمية وعيه وتقديره للمجتمع ومنتجاته الحضارية والثقافية، هل المسؤولية تقع على المخططين أم على المجتمع أم الفكر المجتمعي أم من..؟. التنمية الثقافية يبدو أنها لاتجاري مثيلتها الاقتصادية في مجتمع يتطور بشكل كبير فليتنا نسمع عن مشروع ثقافي في مقابل كل مشروع اقتصادي أو اجتماعي، كل ما نملكه حول الثقافة في مجتمعاتنا هو تظاهرات ثقافية لا تعدو كونها فعاليات تنتهي وتنسى بانتهاء الحدث. فكرة التنمية الثقافية فكرة عظيمة وضرورية للبناء الاجتماعي ففي التنمية الثقافية تتغير المسارات الاجتماعية نحو الأفضل ويمكن من خلالها أن ندير العمليات الفكرية للمجتمع بطريقة ايجابية بل نستطيع من خلالها قراءة المستقبل وإدارته بطرق سهلة. التنمية الثقافية وحتى لا تؤخذ الفكرة التي اطرحها بشكل خاطئ هي ليست التعليم أو الاقتصاد أو الاجتماع، التنمية الثقافية هي منهجية تستوعب كل منتجات المجتمع لتحوله في النهاية إلى أنشطة فكرية واجتماعية يتم ممارستها في المجتمع ويتفاعل معها الأفراد بأساليب متفاوتة ولكنها في النهاية عنصر أساسي في تحديث إدراكهم عن الواقع الاجتماعي من حولهم. ولكي تكون الصورة قريبة فإن تنمية الثقافة المعنية هنا هي قدرة المجتمع على تطوير آليات لتحقيق الوعي الكافي ولجلب المجتمع للتفاعل مع الثقافة بمضمونها الاجتماعي ومنتجاتها بما يضمن تحقيق المجتمع لمتطلباته الفكرية الحقيقية. نحن نعاني من حساسية مفرطة من مدلول الثقافة والسبب في ذلك إننا نجهل الكثير من إسهاماتها، لذلك نحن نعرف وجها واحدا من الثقافة المجتمعية هذا الوجه غالبا غير مكتمل لدينا مع العلم أن حساسية الاقتصاد والتعليم على سبيل المثال هي اكبر أثرا على الحياة الاجتماعية حال تأثيرها سلبا الواقع. التنمية الثقافية لا تكتمل دون مساهمة الأنساق الاجتماعية الأخرى سواء التربوية أو الاقتصادية أو الاجتماعية وإذا غابت هذه الأنساق عن مساهمتها الاجتماعية خلقت هوة ثقافية في المجتمع بين الأفراد وبين تلك الأنساق. الحقيقة القاسية أننا ندخل الآن في مسار تتداخل فيه معنا العولمة لتشكيل الثقافة لدينا وتكوين الأنشطة الفكرية التي يمارسها المجتمع، هذه العولمة إن لم نستطع استضافتها بطريقتنا الخاصة ووفق إمكاناتنا فهي ستحل علينا بطريقتها وبأسلوبها الذي تراه هي وليس ما نراه وهنا مكمن الخطر. التنمية الثقافية والفكرية أهم كثيرا من أي تنمية بما فيها التنمية الاقتصادية ولكن مشكلتها أنها لا تحدث ولا يمكن دفعها دون إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة وهذا يمنحنا حقيقة تقول إن إغفال التنمية الثقافية في ضل سلسة التنمية المتلاحقة سيكون له من الآثار السلبية كما لو لم تحدث تنمية اجتماعية شاملة. هذه الفكرة ليست مجازفة من اجل دعم التنمية الثقافية ولكنها حقيقة واضحة فكثير من المجتمعات التي تعمل على تنمية نفسها في مجالات معينة وتغفل ذلك الجانب الثقافي المجتمعي تفاجأ بأن احتفاء مجتمعها وأفرادها بتلك التنمية يضل محدودا وغير مقنع، والسبب أن تلك المجتمعات التي جلبت لها التنمية الكثير من مقومات الحياة الحديثة لم تتعرض إلى تنمية ثقافية وفكرية تجعلها تقدر كل تلك الجهود المالية والتخطيطية التي بذلت في سبيل جلب تلك التنمية إلى ذلك المجتمع. التنمية الثقافية اليوم وهي مطلب أساسي لردم الهوة التي تبنى بين مقومات النمو والتحديث الاقتصادي والتنظيمي في المجتمع فالمجتمع القادر على تحقيق مقومات النمو بشكل سريع ليس بالضرورة أن يكون قادرا على منهجية التعامل مع هذا التحديث من خلال خلفيته الفكرية والثقافية لذلك هو بحاجة التنمية ثقافية. إننا بحاجة إلى تخطيط محكم لإدارة عمليات الثقافة في المجتمع بما يتوافق مع متطلباتنا المحلية وبتكيف مع الثقافة العالمية التي أصبحت وبفعل العولمة واقعا لا نستطيع الخلاص منه ولا حجبه. العولمة كما اعتقد هي إعادة لبناء ثقافة العالم وفكره في جميع المجالات بما يحقق متطلبات الحضارة والنمو السريع في التقنية القادمة من المجتمعات الغربية والمستهلكة في بقة دول العالم. هذا النمو سيعيد تعريف الكثير من قضايانا الفكرية والاجتماعية بطرق اكبر من قدرتنا على التخلص منها، لذلك نحن نتوقع أفكارا مختلفة سوف تجد لها مكاننا في المجتمع وبين إفراده ولن يكون لدينا القدرة على منع أو حتى التخفيف من ذلك التيار الجارف للعولمة الذي يتدفق عبر الفضاء ولا يمشي على الأرض. إن من اكبر الأدلة على تأثير العولمة وبداية بروزها لاجتماعي هي تلك الظواهر المرتبطة بمتابعة الإنتاج العالمي من الأفلام السينمائية، في مجتمعاتنا هذه الظواهر أصبحت جزءاً من التكوين الثقافية للمجتمع وبدأنا نسمع أن من دوافع السفر والتنقل ما هو مربوط بمشاهدة احدث الأفلام العالمية في دور السينما القريبة منا، هذا مثال بسيط يتشابه معه البحث مثلا عن الكتب والمكتبات وعن المؤسسات الثقافية الراعية للأنشطة الفكرية. العالم اليوم يتغير والمجتمعات تتغير والظروف الاقتصادية سوف تستمر بضغطها العالمي على المجتمعات لعدة سنوات قادمة لذلك يجب أن تحظى التنمية الثقافية بقدر كبير من الاهتمام من اجل مساعدة المجتمع فكريا على مواجهة الأزمات الاقتصادية والتحولات العالمية. المزيد من المساحات المفتوحة في الثقافة وممارستها وجعلها معبرة عن الواقع الاجتماعي يعتبر مطلبا أساسيا لكي نردم تلك الهوة الثقافية التي قد تحدث في واقعنا الاجتماعي. التغير الذي نراه الآن لدى كثير من الأفراد وخصوصا الشباب منهم من ممارسات نطلق عليها بأنها غربية هي في حقيقتها ليست عمليات تقليد هوجاء بل هي ثقافة جديدة يستقبلها المجتمع وسوف ينشأ عليها هؤلاء الشباب وتصبح جزء من تكوينهم الفكري وقد ينقلونها إلى أبنائهم مستقبلا لذلك يبقى السؤال المهم: ما هي الكيفية التي يجب أن نطور من خلالها مشروعات ثقافية تستوعب الأبعاد الاجتماعية وتتكيف مع الواقع العالمي..؟. القضية ليست بهذه البساطة فالكثير من المجتمعات في العالم المماثل لنا لن تكون قادرة على إدارة ثقافتها إذا لم تستوعبها من خلال مشروعات وتنمية ثقافية تنطلق من بناء لمشروعات فكرية ومشروعات فنية ومشروعات إبداعية وثقافية تستوعب الثقافة العالمية وتتكيف معها بطريقة ماهرة بدلا من تركها والتظاهر بحجم تأثيرها. الكثير من المجتمعات في العالم ليس أمامها خيار فلن تصبح قادرة على إغلاق الفضاء بأفكار تقليدية فالكثير من مقومات الحياة الثقافية والاجتماعية يجب أن تتعرض للتطوير. الكثير من الحساسيات يجب أن تزال من طرق التطوير الثقافي فليس أمام الكثير من مجتمعات العالم من خيار للسكوت ثم انتظار المفاجآت الاجتماعية والتي غالبا لن تخرج عن مسارين فهي إما تطرف إلى اليمين (إرهاب) أو تطرف إلى الشمال وهذا ما يجب على المجتمع أن يتخلص منه عبر خطط تستوعب الحياة الثقافية وتعمل على تنميتها، ففي التنمية الثقافية يتحقق الوعي الاجتماعي وتتضح أهمية المجتمع الثقافية ويتم تقدير التطوير والنماء الذي يتحقق في المشروعات الاقتصادية والتربوية وغيرها.