في السابع والعشرين من شباط فبراير الماضي، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، عن خطته لسحب القوات الاميركية القتالية من العراق، بحلول 31 آب أغسطس 2010، ليفي بما وعد به في حملته الانتخابية بإنهاء الحرب. وأكد أوباما لرئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، أن العمليات القتالية ستنتهي بحلول ذلك التاريخ، كما سيتحقق خروج آخر جندي أميركي من العراق مع نهاية العام 2011. ومن جهته دافع روبرت غيتس، وزير الدفاع الأميركي، عن خطط أوباما بشأن سحب القوات. وجاء موقفه رداً على انتقادات الديمقراطيين لبقاء نحو خمسين ألف جندي بعد سحب القوات القتالية. ونقلت "نيويورك تايمز" عن غيتس قوله انه يسعى إلى تهدئة مخاوف رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ هاري ريد، وغيرهما. وحسب الخطة الجديدة، فإن ما يتراوح بين 35 ألفاً و50 ألف جندي أميركي سوف يبقون في العراق، من أجل تدريب وإعداد القوات العراقية، و"القيام بعمليات محدودة لمكافحة الإرهاب". ويوجد في العراق حالياً نحو 142 ألفاً من القوات الأميركية، بينها 14 لواء قتالياً، بواقع 4000 جندي لكل لواء، مع عشرات الآلاف من القوات المساندة. واستناداً لتقرير نشرته "واشنطن بوست"، فإنّ إقرار خطة الانسحاب، التي تستغرق 19 شهراً، كانت واحدة من عدة خيارات وضعت أمام الرئيس أوباما، من قبل روبرت غيتس، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، الأدميرال مايكل مولن، الذي عرض كذلك خطة انسحاب أسرع خلال 16 شهراً، وأخرى أبطأ، أمدها 23 شهراً. في المقابل، يُفضل الجنرال اوديرنو، قائد القوات الأميركية في العراق، جدولاً زمنياً أطول أمداً. ويرى أن العام 2009 يُعد بالغ الأهمية، إذ أنه سيشهد إجراء انتخابات برلمانية في كانون الأول ديسمبر. ولا يرغب أوديرنو في فقدان أكثر من لواءين قبل نهاية العام الجاري. ويدعم رؤيته هذه قائد القيادة الوسطى الأميركية، الجنرال ديفيد بيترايوس. ويعتزم الجيش الأميركي تسليم السلطات العراقية ملف بغداد الأمني بحلول حزيران يونيو القادم. وسوف تركز القوات الأميركية أنشطتها على المناطق الريفية، للحد من دخول المسلحين إلى مراكز المدن، تاركة مكافحة الجرائم للشرطة المحلية. وفي كانون الثاني يناير الماضي، أكد قائد مشاة البحرية الاميركية (المارينز)، الجنرال جيمس كونواي، أن الوقت أضحى مواتياً لكي تغادر وحداته مناطق انتشارها في العراق، نظراً لتحسن الوضع الأمني. وقال كونواي: إن قواته تواصل سحب معداتها، وإنها بحاجة إلى نحو ثمانية أشهر لإخراج كافة هذه المعدات من مسرح العمليات. وأفاد تقرير أعدته وزارة الدفاع الأميركية، في تموز يوليو الماضي، أن كافة المؤشرات الرئيسة تدل على تراجع نسبة العنف، ما بين 40 في المائة إلى 80 في المائة منذ شباط فبراير 2008. وأرجع التقرير بصفة أساسية التحسن الأمني إلى بزوغ قوات "أبناء العراق"، وقوامها نحو 90 ألف عراقي، غالبيتهم من العناصر المسلحة السابقة. وهم يتلقون رواتبهم من الجيش الأميركي، ويقومون بمهمة حماية المناطق السكنية وتوفير معلومات استخباراتية حول العناصر المسلحة. ويجري سحب القوات الأميركية بموجب اتفاقية وضع القوات، التي جرى تعديل تسميتها بطلب عراقي إلى "اتفاقية انسحاب القوات الأميركية"، والتي أقرتها الحكومة العراقية في 15 تشرين الثاني نوفمبر 2008، وصادق عليها فيما بعد مجلس النواب العراقي. وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر، في 21 كانون الأول ديسمبر 2008، بعد جهود عراقية حثيثة، القرار الرقم (1859)، الذي نص على إنهاء ولاية القوات المتعددة الجنسية من العراق، وتمديد حماية أمواله وأرصدته في الخارج، مع مراجعة القرارات المفروضة عليه، ابتداء من القرار الرقم (661). وتنص الفقرة الأولى من المادة الرابعة والعشرين، من اتفاقية انسحاب القوات الأميركية، على وجوب أن تنسحب جميع قوات الولاياتالمتحدة من جميع الأراضي العراقية، في موعد لا يتعدى 31 كانون الأول ديسمبر من العام 2011 .وتشير الفقرة الثانية من المادة نفسها إلى أنه يجب أن تنسحب جميع قوات الولاياتالمتحدة المقاتلة من المدن، والقرى والقصبات، العراقية في موعد لا يتعدى تاريخ تولي قوات الأمن العراقية كامل المسؤولية عن الأمن في أي محافظة، على أن يكتمل انسحاب قوات الولاياتالمتحدة من الأماكن المذكورة أعلاه في موعد لا يتعدى 30 حزيران يونيو 2009. وينص البند الأول من المادة السابعة والعشرين من الاتفاقية، على أنه عند نشوء أي خطر خارجي أو داخلي ضد العراق، أو وقوع عدوان ما عليه، من شأنه انتهاك سيادته أو استقلاله السياسي، أو وحدة أراضيه أو مياهه أو أجوائه، أو تهديد نظامه الديمقراطي أو مؤسساته المنتخبة، يقوم الطرفان، بناء على طلب من حكومة العراق، بالشروع فوراً في مداولات استراتيجية، وفقاً لما قد يتفقان عليه فيما بينهما. وتتخذ الولاياتالمتحدة الإجراءات المناسبة، والتي تشمل الإجراءات الدبلوماسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو أي إجراء آخر، للتعامل مع مثل هذا التهديد. وفي المقابل، نص البند الثالث من المادة السابعة والعشرين من الاتفاقية، على عدم جواز استخدام الأراضي، والمياه والأجواء، العراقية ممراً أو منطلقاً لهجمات ضد دول أخرى، ليست في حرب مع العراق. ونص البند الثالث من المادة التاسعة، من الاتفاقية على أن تنتقل المراقبة والسيطرة على المجال الجوي العراقي إلى السلطات العراقية، فور دخول الاتفاقية حيز النفاذ. وينفي العراق، على نحو دائم، وجود أي اتفاق مع الولاياتالمتحدة، يتيح لها أن تقيم بموجبه قواعد عسكرية في أراضيه أو مياهه أو مطاراته. ويؤكد العراقيون بأن القوات الأميركية غير القتالية سوف تتركز في معسكرات مؤقتة لحين الانسحاب النهائي. كما سيتم الاتفاق على وضع القوات المتواجدة بعد العام 2011 لغرض "التدريب والمشورة والدعم"، وفق اتفاقيات منفصلة مع القيادة العسكرية الأميركية. وقد نص البند الأول من المادة ثلاثين، من اتفاقية انسحاب القوات الأميركية، على أن تكون هذه الاتفاقية سارية المفعول لفترة ثلاث سنوات، ما لم يتم إنهاء العمل بها من قبل أحد الطرفين، قبل انتهاء تلك الفترة. وحسب البند الرابع من المادة ذاتها، فقد دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ اعتباراً من اليوم الأول من كانون الثاني يناير 2009، بعد تبادل الطرفين المذكرات الدبلوماسية المؤيدة لاكتمال الإجراءات اللازمة. وهناك 15 لجنة فرعية أميركية عراقية مشتركة، مختصة بتطبيق بنود هذه الاتفاقية. وينصب التركيز حالياً على تنفيذ الاستحقاق الخاص بسحب قوات الولاياتالمتحدة من المدن، والقرى والقصبات العراقية، بحلول نهاية حزيران يونيو القادم. وقال الرئيس أوباما، في الخطاب الذي ألقاه في قاعدة لمشاة البحرية الأميركية، في كارولينا الشمالية، في شباط فبراير الماضي: إن خفض عدد القوات سوف يُرسل إشارة على تحسن الأوضاع في البلاد، واستعداد العراقيين لتسلم مسؤولية الأمن، في حين ستعمل واشنطن على توفير "دبلوماسية مستدامة"، ومساعدة المؤسسات العراقية على تقديم الخدمات لمواطنيها، وإعادة المهجرين، الذين يجب أن يكونوا جزءا من المصالحة الوطنية. وإضافة لاتفاقية انسحاب القوات، أبرم العراق، في السابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر 2008، اتفاقية تعاون استراتيجي بعيد المدى مع الولاياتالمتحدة، أضحت نافذة المفعول منذ الأول من كانون الثاني يناير الماضي. وترسي هذه الاتفاقية مبادئ التعاون الأميركي العراقي في المجالات السياسية والدبلوماسية، والثقافية والصحية والبيئية. والتعاون في مجالي الاقتصاد والطاقة. إضافة إلى مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وإنفاذ القانون والقضاء. وبالعودة لاتفاقية انسحاب القوات، فقد نجح العراق في إدخال كم كبير من التعديلات على المسودة الأصلية لهذه الاتفاقية، بحيث أتت قريبة من هواجسه. وهذا يُشير إلى أن السلطة العراقية قد أضحت تمتلك، بتحالفاتها الداخلية، قدراً من القوة في موقفها التفاوضي مع الولاياتالمتحدة. وربما باتت هذه الأخيرة تدرك بدورها أن حساسية توازنات العراق السياسية والمذهبية لا تتيح ممارسة مزيد من الضغط عليه. كما أنها شعرت مبكراً بأن بيئته الجغرافية، أو لنقل روابطه الإقليمية المتعددة، تحول هي الأخرى دون قدرته على الاستجابة لمطالب مثيرة لهواجس الآخرين. ويبدو التاريخ اليوم وكأنه يُعيد نفسه، فقبل نصف قرن، اضطرت الولاياتالمتحدة لتخفيض قواتها في اليابان بفعل حاجتها لمزيد من القوات للحرب في شبه الجزيرة الكورية. وهذه إدارة الرئيس أوباما تُسرّع في سحب الجنود من العراق على خلفية الحرب في أفغانستان. ففي التجربة التاريخية ذات المغزى، تم في 8 أيلول سبتمبر 1951، في ذروة الحرب الكورية، التوقيع على اتفاقية سان فرانسيسكو، التي أنهت الاحتلال الأميركي لليابان، باستثناء جزيرتي أيوجيما (حتى العام 1968) واوكيناوا (حتى العام 1972).وفي 19 كانون الثاني يناير من العام 1960 ، وقعت طوكيو وواشنطن "معاهدة التعاون المشترك والأمن" ( TMCS)، التي أقرها البرلمان الياباني في 20 أيار مايو في العام ذاته. وقد نصت المادة الخامسة من المعاهدة على أن كل طرف يعتبر "أن أي هجوم مسلّح ضد أي منهما، في أية منطقة تحت السيطرة اليابانية، يُعد تهديداً لسلامته وأمنه، ويُعلن لذلك التزامه بمواجهة هذا الخطر ، ضمن الالتزامات والعملية الدستورية". وبموجب السادسة من المعاهدة، تم التوصل إلى اتفاق خاص بتواجد القوات الأميركية في اليابان، عُرف "باتفاقية وضع القوات الأميركية" (SOFA).وقد تعهدت اليابان، حسب المادة الثانية من هذه الاتفاقية، بتقديم قواعد عسكرية للولايات المتحدة. وعززت حيثيات هذه الاتفاقية من فرص الولاياتالمتحدة في إعادة رسم بيئة الأمن الإقليمي في آسيا الباسفيك، على النحو الذي ينسجم ومدركات إستراتيجيتها الكونية، وخاصة معطيات الصراع القائمة حينها مع كل من الصين والاتحاد السوفياتي، فضلاً عن كوريا الشمالية وفيتنام. وقد ساعد الولاياتالمتحدة على تحقيق ذلك كون السلطة الحاكمة في طوكيو في حالة عداء صريح مع جوارها الإقليمي، المنافس للولايات المتحدة، سيما صين ماو تيسونغ. ولم يتوفر مثل هذا المعطى بالنسبة للمقاربة الأميركية الراهنة مع العراق، بل على العكس من ذلك، فرضت حسابات العراق الإقليمية الكثير من الضغوط على هذه المقاربة. في مقابل ذلك، لا يبدو أننا أمام صورة واضحة لحجم القوات الأميركية التي ستبقى في العراق بعد العام 2011، كما لا يبدو واضحاً طبيعة الدور الذي ستضطلع به هذه القوات، خارج سياق أمن العراق الداخلي. والأهم من كل ذلك، فإن أحداً في واشنطن أو بغداد لم يطرح إجابة محددة حول موقع القوة الأميركية المستقبلية في العراق من مقاربة الولاياتالمتحدة لأمن الخليج، والوضع الإقليمي عامة.